فؤاد إبراهيم *
في غابر القرون، ظَلّ الوطن بمشتقّاته كافّة (المواطن، الوطنيّة والمواطَنة) يُطرح في سياقات ثقافية وتاريخية واجتماعية وحتى سياسية مختلفة، ولم يكن ملتصقاً بكيان سياسي بعيْنه. فكان يُقال، على سبيل المثال، إن هذه الفئة من الناس تابعة في ولائها لحاكم هذا الإقليم أو ذاك، ولكن لم تَحبس تلك التابعيّة الناس في حدود إقليمية معيّنة، سوى ما يقع في أوقات الحروب وموجباتها من اصطفاف، واحتماء، وتعبئة، واستنفار. ولكنّ الوطنيّة في الزمن المعاصر، حملت معنى مغايراً، فباتت مرتبطة حصرياً بتجربة الدولة الحديثة، ولذلك أُطلق عليها مسمّى “الدولة الوطنية” أو “Nation-State”. وهكذا، أضحت مُصوَّبة ولا تزال نحو الدولة/ السلطة ورموزها، وليس المجتمع والأمّة، فلا وطنيّة من دون أرض وسلطة. ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن تعريف الوطنيّة خضع لنقاش واسع من زوايا سياسية وقانونية وأخلاقية، ولا سيما لناحية تداخُله مع مفاهيم أخرى مشابهة مثل القوميّة، وكان السؤال: هل الوطنيّة قيمة ثقافية ووجدانية أم قانون أخلاقي ودستوري ملزِم، يجب اتّباعه من قِبَل أيّ شخص ينتمي إلى دولة ما أو يتقلّد منصباً رسمياً في إحدى مؤسّساتها؟
أَهمل فلاسفة السياسة البحث بعُمق في مفهوم الوطنيّة، ولكنّ الدولة بتغوّلها واكتساحها المطبق، أمْلت عليهم تخصيص قدْر وازن من الجهد لتفكيك هذا المفهوم بجدّية. وقد وجّه الأناركي المسيحي، ليو تولستوي، نقداً إلى مفهوم الوطنيّة، معتبراً أنها باتت في عصرنا نزعة عقليّة خاصة، يتمّ إنتاجها على نحو متواصل في أذهان الناس في الاتّجاه الذي تريده الحكومة، ويجري تعميمها عبر المدارس والدين والصحافة المدعومة، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، فهي باعث أخلاقي وفكري للطبقة الدنيا، يتمّ إنتاجه من قِبَل الطبقات الحاكمة بوسائل خاصّة، ليُحمل على تبنّيه بصورة دائمة من قِبَل الشعب. ولذلك، تقوم الطبقات الحاكمة بتعزيز الوطنيّة بوصْفها شعوراً نبيلاً لدى عامّة الجماهير، فيما هي المستفيد الأوّل منه.
كان سؤال فيلسوف الأخلاق، ألسدير ماكنتاير، في عام 1984: “هل الوطنيّة فضيلة؟”، قد أشعل نقاشاً واسعاً حول القيمة الأخلاقية للوطنيّة، بناءً على ما أظْهره فلاسفة كبار من مناصَرة لقضايا أممهم إبّان الحرب العالمية الأولى بين عامَي 1914 و1918، حين انحاز عالم الاجتماع الألماني، ماكس ويبر، إلى الإمبراطورية الألمانية، وعَدّ ذلك انتصاراً لقضيةِ حضارة، وهو نفْس منطلق نظيره الفرنسي، إميل دوركهايم، في دعم فرنسا. وقد أظهر مفكّرون وعلماء سياسة أميركيون ولاءً خاصّاً للولايات المتحدة، لأنها تُظهر محاسن الحرية ضدّ شرور الشيوعية. ظَهر إذاً أن الوطنيّة ذات طابع إقليمي (قُطري)، وبالتالي فإن طابعها الأخلاقي مرتبط هو الآخر بولاء كلّ شخص لبلده؛ فوطنيّة الفرنسي تَبقى حكراً على الفرد من أصول فرنسية. أمّا تقسيم الوطنية إلى شيء خاص بالوطن وآخر خاص بالحضارة، على قاعدة أن الوطن لنا والحضارة لنا ولكم، مع ما في ذلك من وجْه استعلاء، وكأن الحضارة خاصة بوطن دون غيره أو أن هذا البلد دون غيره مَصدر للحضارة، فهذا ينطوي على تحقير لأمم أخرى. وقد تحمل الوطنيّة على الامتنان المعبَّر عنه بالولاء، أو يُنظر إليها على أنها أبعد من ما تَقدّم، أي على أنها نوع خاص من الامتنان، فيكون التعبير عن حبّ الوطن بالولاء، وهو ما يجعل الوطنيّة فضيلة.
يُراد للسعودية أن تكون وطناً ودولة في آن واحد، بل يتحوّل حبّ الوطن إلى شرط لإثبات إخلاص المرء
عارض فلاسفة آخرون توصيف ماكنتاير للوطنيّة كفضيلة أخلاقية، وذهب ستيفن ناثانسون، على سبيل المثال، إلى ترجيح وطنيّة مخفَّفة أو ما سمّاها «الوطنيّة المعتدلة»، وهو يقف في منطقة وُسطى بين الشوفينيّة وعدم الولاء، وقال بإمكانية أن تصبح الوطنيّة فضيلة، ولكن لا يعني ذلك أن مُواطني جميع الدول يجب أن يكونوا وطنيّين، وإنّما يعتمد على صفات دُولهم وحكوماتهم؛ فبعض الدول تفتقر إلى مستحقّات الولاء والتفاني، وبالتالي فإن إظهار حبّ الوطن تجاه هذه الدول غير جدير. وعليه، فإن الوطنيّة المقيَّدة أخلاقياً محدودة في نطاق الإجراءات التي تتطلّب من المواطنين دعمها، ومشروطة بطبيعة الأمّة التي يتمّ توجيه الولاء لها. عارض بول جومبيرج، مقاربة ناثانسون، وخلص إلى أن الوطنيّة في أكثر الافتراضات منطقيّة في عالمنا، ليست أفضل من العنصرية، على أساس أن دعوى التوافق بين ضرورات الأخلاق المنطقية والعالمية الأخلاقية غير منطقيّة، لأنها تفترض أن الشمولية الأخلاقية محكومة لمبادئ تهَب اعتباراً متساوياً لجميع الأشخاص الذين قد يخضعون تحت تأثيرها بفعلٍ ما، فليس هناك ثمّة تطابق بين الشمولية الأخلاقية والأخلاق المنطقية.
على نحو الإجمال، فإن ثمّة نقاشاً لم ينقطع، جَذب إليه طيفاً من الفلاسفة من مدارس شتّى، على أساس أن الوطنيّة بمعنى “حبّ المرء لبلده” بحسب تعريف المعاجم السياسية، لا تُحقّق أغراضها من وجهة نظر المستفيد منها، أي السلطة.
في السعودية، تبدو مفاهيم الوطنيّة والقوميّة وأضرابها غائبة في الثقافة الشعبية بسبب تكوين الدولة نفسها؛ فحين نطبّق تعريف الوطنيّة على أنه حبّ المرء لبلده، يتماهى البلد مع الدولة، فما جرى في عام 1932 هو أن كياناً مستحدَثاً أعلن عن نفسه وضَمّ مناطق/ دويلات، فيما أُلغيت البُلدان لمصلحة بَلد لا كُنه له لارتباطه بتجربة دولة من غير الممكن إسباغ صفة الوطن عليها، لافتقارها إلى الشروط الأوّلية لنموذج الدولة الوطنيّة. فالمشكلة في السعودية ليست في التداخل بين الوطنيّة والقوميّة، بحسب مناقشة برايموراتز، على أساس أن الوطنيّة مرتبطة بالدولة والقوميّة مرتبطة بالأمة، فهذا التداخُل غير وارد في المملكة، فهي فاقدة للصفتَين معاً. إن المحاولات المستمرّة من قِبَل مثقّفين وكتّاب وإعلاميين لإنتاج مشاعر وهويّة ودوافع وطنية، تصطدم على الدوام بواقع تاريخي كان عصيّاً على الاستبدال بجرعة وطنية مكثّفة تقدّمها الطبقة الحاكمة والنُّخب المثقّفة التابعة لها في أيّام معدودات. إن الوطنيّة كتفضيل أخلاقي هي مِن بين عناصر تفضيلية جمّة لدى الأفراد حيال أشياء كثيرة مِن مِثل الأماكن والأشخاص والأكل والشرب واللباس. وبالتالي، فإن الميل إلى حبّ الوطن ليس بالأمور القهرية، كما لا يمكن تصعيده ليكون فضيلة أخلاقية عليا. فالحبّ، من بين أشياء عزيزة في الحياة، هي فِعل اختيار، وليس فريضة. أقول ذلك، لأن ثمّة من يربط الوطنيّة بالولاء والخيانة، ويأخذ هذا الأمر منحًى خطيراً في السعودية، حيث لا فصْل فيه بين البلد والدولة، فأن تحبّ بلدك يعني حُكماً أن تحبّ الدولة والعائلة المالكة، ومعارضة العائلة المالكة تعني خيانة الوطن والبلد.
بقيت الوطنيّة عالقة بين الأخلاق والفلسفة السياسية، ولا تزال مادّة جدل متصاعد، وفي كلّ الأحوال فإن مفهوم الوطنيّة لم يُقارَب خارج مجال عمل الدولة، بل يصبح واحدة من سيّئات الأخيرة حين تفصل رعاياها المستدمَجين بموجب مشاعر وطنية مستحدَثة، كأحد المكمّلات النفسية والثقافية لوجودها. ولذلك، ليس من المستغرَب أن تعكف الدولة على تشجيع الوطنيّة وتحويلها إلى فضيلة، إذ بها تُحقّق وحدتها واستقرارها. ولذلك، تخصّص الوزارات المعنيّة (التعليم والإعلام والدفاع والدين…) موادّ ثقافية لتحفيز مشاعر الأفراد، وإنتاج هويّة ومشاعر وذاكرة مشتركة تجتمع عند «حبّ الوطن»، والقصد منه في وعي الطبقة الحاكمة هو “حبّ الدولة”. ولا غرابة، أيضاً، أن يكون من أهداف تحفيز المشاعر الوطنيّة تشجيع المواطنين على الامتثال للقانون ودعم سياسات الحكومة. وفي واقع الأمر، لا علاقة لحبّ المرء لبلده، ومسقط رأسه، وموطن عائلته والديار التي نشأ فيها وتَشكّلت ذاكرته فيها، بحُبّ الدولة، ولا علاقة لهذا كلّه بالفضائل الأخلاقية، كما لا صلة له بالدولة التي توظّف مِثل هذه المشاعر الفطرية والعفوية لخدمة أهدافها، وفي رأسها الهيمنة وبسط نفوذها على ساكنيها، وهو ما تحاوله الطبقة الحاكمة في السعودية. يَرجع ما تَقدّم إلى أن مشروعيّة النظام السعودي كانت دائماً مرتبطة بالقوّة أكثر منها بجدارة التمثيل، في بلدٍ جرى إخضاع أجزائه تحت تهديد «السيف الأملح»، الذي لا يزال مُسلَّطاً بأشكال أخرى.
ثمّة استعصاء هويّاتي دالّته أن “المشترَك” الثقافي والتاريخي كمكوِّن لذاكرة وطن، غيرُ قابل للتوليد
إن ما يُفقد المشاعر الوطنية فطريّتها وعفويّتها وبراءتها، هو تَحوّلها إلى مصدر تهديد لأناس آخرين في الوطن نفسه، أو في بُلدان أخرى. في “اليوم الوطني السعودي” (23 أيلول)، يجري استحضار بطولات الجنود الذين خاضوا معارك التأسيس، والتي لم يكن ضحاياها سوى آباء المواطنين وأجدادهم. تلك هي الذاكرة والمشاعر الوطنية التي يُراد إحياؤها وتعميمها، ما يشي باستعصاء هويّاتي دالّته أن «المشترَك» الثقافي والتاريخي كمكوِّن لذاكرة وطن، غيرُ قابل للتوليد، حتى في المناسبة التي صُمّمت من أجل تأكيد الوحدة الوطنية، وليس تذكير المواطنين بهزائم أجدادهم وقهر مناطقهم ونهبها من قِبَل صانع الكيان وحاكمه. تَنبّه تولستوي إلى خطورة تنامي الشعور بالولاء لبلدٍ منشؤه الحرب، وربطه بالوطنيّة. تولستوي، من خلفيّة لا سلطوية، عارض الوطنيّة كأداة من أداة الدولة، مصوِّراً ذلك على النحو الآتي: إن شعوب كلّ أمّة يخدعها حكّامها، ويقولون للفرد منها بأنك معرّض للانسحاق من قِبَل الأمم الأخرى، ونحن نسهر على رفاهيّتك وسلامتك، وبالتالي نطلب منك بعض الملايين من المال – ثمرة عملك -، كي نقتني الأسلحة والمدافع والبارود والسفن للدفاع عنك، كما نطالب باندماجك في مؤسّسات نُقيمها نحن، حيث تصبح من جزيئات لا معنى لها من آلة ضخمة – الجيش – ستكون تحت سيطرتنا المطلقة. وعند دخولك الجيش، ستتوقّف عن أن تكون إنساناً له إرادة حرّة، ببساطة، ستفعل ما نطلبه منك. ولكن ما نتمنّاه قبل كلّ شيء هو ممارسة السيادة؛ والوسيلة التي نسيطر بها هي القتل، لذا، سنأمرك بالقتل.
في المقابل، قارب ستيفين ناثانسون الوطنيّة من وحْي نموذج الدولة، وإن لم يصرّح بهذا فعلياً؛ فوظائف هذه الوطنيّة كما يراها تتطابق مع المواطن الصالح المستعدّ للتماهي مع الدولة، والدفاع عنها بدعوى الدفاع عن البلد. ومن هنا، لا يجد ناثانسون ما يميّز بين حبّ البلد وعاطفته تجاهه. ولكن ما هو أشدّ أهمية هو التمييز بين حبّ الوطن وحبّ الدولة، حيث يجري استخدامهما بشكل تبادُلي في أحيان كثيرة، وهذا ما يحصل في الجزيرة العربية، حيث يُراد للمملكة السعودية أن تكون وطناً ودولة في آن واحد، بل يتحوّل حبّ الوطن إلى شرط لإثبات إخلاص المرء وولائه وانتمائه إلى الدولة. ولذا، فإن الفرد الذي لا يعبّر عن حبّه لدولته يَصعب تصنيفه وطنياً، بل يُحسب خائناً، مع أنه قد يكون محبّاً لبلده ولقومه.
فهل الدولة السعودية إلّا نتاج حرب، أو معارك احتلال داخلية، وهل تجتمع الحرب والوطنيّة؟ إن العُقم التكويني الذي تعاني منه المملكة في إنتاج كلّ ما هو وطني (هوية، مشاعر، وحدة، ثقافة…) سوف يبقى كذلك، ما دام عقل التأسيس لا يزال غالباً على عقل التسيير.
لا غرابة إذاً، في “اليوم الوطني”، أن يذكِّر المنتصرون، القابعون في السلطة، ضحاياهم/ المواطنين، بأنهم أُخضعوا بالقوة، وأنهم في وطن حكرٍ على الحاكم، والوطنيّةُ فيه حِكرٌ على المحكوم.
* فؤاد إبراهيم هو قيادي في “لقاء” المعارضة في الجزيرة العربية
>> المصدر: صحيفة “الأخبار” اللبنانية