القيادي في "لقاء" المعارضة في الجزيرة العربية الدكتور فؤاد إبراهيم (صورة من الأرشيف)

فلاسفة الغرب وفلسطين [1]: تواصلية هابرماس مشروطة بالتماهي مع إسرائيل

* فؤاد إبراهيم

على طريقة جمهرة من الفلاسفة والباحثين والإعلاميين في الغرب في مقاربة العدوان الإسرائيلي على غزة، بفصل «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر عن سياقه التاريخي، أي خارج سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في بتر متعمّد للصيرورة التاريخية وتحوّل رد الفعل الدفاعي إلى فعل ابتدائي هجومي. وفي انتقائية مقصودة لوضع الواقعة خارج سياق المقاومة المشروعة على فعل الاحتلال الممتد لأكثر من سبعين عاماً، وتالياً نزع دمغة المقاومة وإحلال دمغة الإرهاب، يتصدّر الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، ورفاقه في مدرسة فرانكفورت، رهطَ الفلاسفة الأوروبيين في تسويغ «التضامن» مع الكيان الصهيوني وإحالته واجباً أخلاقياً، ليكون «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» حقاً لا مراء فيه، وهو كفيل بتوفير الذريعة باستخدام كل الوسائل لحماية نفسها من تكرار الخطأ الأخلاقي الألماني. هابرماس، الذي أمّل قارئيه بالفكاك من قبضة التمركز الأوروبي، ما يلبث أن يصدم جمهوره بموقف انقلابي. لم ينحبس انقلابه في بعده الفكري بعد امتطائه موجة الحداثة المبتورة التي عارضها حين تكون ناقصة وانتقائية، بل ضمّ إليها بعداً أخلاقياً في خطابه التواصلي الذي لطالما سحر به المحبطين من هيمنة خطاب الهيمنة والتفوّق العنصري الأووربي.

في رد فعل على ما يجري في فلسطين المحتلة منذ السابع من أكتوبر سنة 2023، بعد عملية «طوفان الأقصى» التي قامت بها حركة «حماس»، وما أعقب ذلك من حملة عسكرية إسرائيلية على قطاع غزّة غير مسبوقة على مستوى العالم، شارك هابرماس في 13 تشرين الثاني 2023 مع مجموعة من الفلاسفة الألمان ينتمون إلى مدرسة فرانكفورت النقدّية التي تأسست سنة 1923، وهم: نيكول ديتلهوف، راينر فورست وكلاوس غونتر، في بيان بعنوان «مبادئ التضامن»، نشر على الموقع الإلكتروني لمركز أبحاث النظم المعيارية بجامعة غوته في فرانكفورت.

توقّف البيان عند ما وصفه «هجوم حماس الوحشي الذي لا مثيل له» ليبني عليه موقفاً أخلاقياً، متجاوزاً ما وصفه البيان «وجهات النظر المتضاربة»، وينتقل إلى ما حسبها مبادئ تشكّل «أساس التضامن المبرر مع إسرائيل ومع يهود ألمانيا»… اختار الموقّعون على البيان مصطلحات مدجّجة بدلالات سيكولوجية وتاريخية لتبرير انتقام إسرائيل، مثل «المذبحة» و«تدمير الحياة اليهودية». لم يتوقف البيان عند أعداد الضحايا من الجانب الفلسطيني ولا الهجوم الهستيري على الأحياء السكنية وهدم المباني على ساكنيها والمجازر الجماعية التي بلغت حتى يوم صدور البيان 1142 مجزرة، سقط فيها 11180 بريئاً، بينهم 4609 أطفال، و3100 سيدة، بحسب إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية.

اختار البيان تجاهل، عن سابق عمد، القلق على «مصير السكان الفلسطينيين»، بحجة أن «معايير التقييم تخرج تماماً عن المسار عند نسب نوايا الإبادة الجماعية إلى العمل الإسرائيلي». تجتمع حالة الإنكار والانتقائية في توظيف شعار «معاداة السامية» لتحصين يهود ألمانيا من أي ردود فعل محتملة إزاء ما وصفها البيان «تصرفات إسرائيل» وليس جرائمها! بل ربط البيان المفهوم الديموقراطي لجمهورية ألمانيا الاتحادية باحترام كرامة الإنسان، ولكن ليس أي إنسان، وإنما المفهوم المرتبط بثقافة سياسية تعدّ «الحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود عنصرين أساسيين فيها» وهذان العنصران جزء جوهري من الالتزام الألماني في سياق «التكفير» عن جرائم الحقبة النازية.

كانت قصة الهولوكست مكوّناً حاضراً بكثافة في السردية الألمانية السياسية والتاريخية لتخرج في هيئة تحذير ذاتي: «لن يحدث ذلك مرة أخرى». فرسالة هابرماس ورفاقه عكست المزاج السياسي العام في ألمانيا، ولا سيما وسط أحزاب اليسار والأحزاب الليبرالية المنضوية في حكومة شولتس الائتلافية. هذه الحكومة التي أبدت سلوكاً راديكالياً إزاء بقية المكوّنات الاجتماعية في ألمانيا، كما ظهر في المطالبة بسحب الجنسية الألمانية من المتّهمين بنشر الكراهية ضد اليهود، ووقف تمويل المؤسسات الثقافية التي تدعم حركة مقاطعة بضائع الشركات الداعمة لإسرائيل. وفي النتائج، فإنّ بيان هابرماس ورفاقه يندرج في سياق التشجيع على إسكات الانتقادات المشروعة للسياسات الإسرائيلية.

أثار البيان جدلاً واسعاً في أوساط أكاديمية أوروبية، وصدمة في أوساط أخرى ثقافية وأكاديمية عربية وعالمية، بفعل الانحياز غير المبرر لموقّعي البيان لمصلحة إسرائيل، وخصوصاً لجهة صدوره بعد أكثر من شهر على بدء الهجمات الوحشية والمجازر المروّعة التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية ضد سكّان قطاع غزة.

تصرّف هابرماس من موقعه الألماني وليس الكوني، على عكس آينشتاين الذي اختار عالميّته على يهوديّته برفضه العرض الذي قدّمه له بن غوريون سنة 1952 بتولّي رئاسة الكيان الإسرائيلي

في بيان مضادّ صدر في 22 تشرين الثاني 2023 عن مجموعة من الباحثين الأوروبيين، أكّدوا فيه أن مبدأ الكرامة الإنسانية لا يقبل القسمة ويجب أن ينطبق على جميع الناس. لفت البيان إلى أن انتقائية هابرماس ورفاقه في التعامل مع مبدأ الكرامة الإنسانية التي «لا تشمل المدنيين الفلسطينيين في غزة وهم يواجهون الموت والدمار، ولا يتم تطبيقه أو توسيعه على المسلمين في ألمانيا الذين يعانون من تزايد كراهية الإسلام».

وجّه البيان نقداً لنفي هابرماس ورفاقه انطباق مسمّى «الإبادة الجماعية على تصرفات إسرائيل» مع أنّ الموقّعين على البيان تحفّظوا على إطلاق الإبادة الجماعية على القتلى بأعداد كبيرة في قطاع غزة بسبب عدم استيفاء المعيار القانوني للإبادة الجماعية، إلا أنّهم حذّروا من «إمكانية حدوث إبادة جماعية». وعبّر الموقّعون عن القلق من إغفال مرجعية القانون الدولي في الحرب لناحية «حظر جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثل العقاب الجماعي والاضطهاد وتدمير البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات ودور العبادة».

في حقيقة الأمر، إنّ بيان هابرماس ورفاقه أكّد التحيّز الغربي ولاأخلاقيته في التعاطي مع قضايا شعوب العالم الثالث. لقد أطاح هابرماس بموقفه التحيّزي رمزيته وسحرية تراثه الفكري ولا سيما فلسفته التواصلية في بعدها الأخلاقي. إنّ استحضار قصة «الهولوكست» في كل مرة يكون العنصر اليهودي طرفاً فيها، يراد منه «معاقبة» العالم بأسره على جرم لم يشارك فيه، وتحويلها أداة تبرير كما فعل البيان لعمليات الإبادة التي انتهجها الكيان الإسرائيلي في قطاع غزّة، ببساطة لأنّ ما يقوم به هو تصرف على كره اليهود. إنّ بقاء الألمان عالقين في عقدة الذنب إزاء اليهود لا يبرّر مواقف معنوية داعمة للكيان الإسرائيلي، بل تستكمل بتقديم كل أشكال الدعم المادي والعسكري له من أجل نيل المغفرة منه وإنزال العقوبة في خصمه.

هابرماس لا ينتقم من الفلسطينيين لخصومة سابقة معهم، ولكن لعقدة ذنب إزاء خصومهم، أي الصهاينة. فقد رافقته العقدة إزاء اليهودي منذ كان طالباً جامعياً حين كان يلحظ النزعة الإقصائية إزاء كل ما هو يهودي. شأن الألمان عموماً، فإنّ «عقدة الذنب الألماني» أو «الذنب الجماعي» على خلفية محرقة هولوكوست، كما أسهب في شرحه كارل ياسبرز في كتابه عن «مسألة الذنب الألماني» الصادر سنة 1947، وربط عقدة الذنب بالمسؤولية السياسية، وليس بالمعنى الأخلاقي والميتافيزيقي، وليس أيضاً الجنائي.

حين يرسّخ الذنب إزاء اليهود في السردية الألمانية يحيل منه فريضة ثابتة ودائمة، فهو مطالب بالتكفير عن هذا الذنب كلما دعت الحاجة. وهنا نواجه تفوّقين، أوروبي ويهودي (إسرائيلي)، إذ ثمة معاملة خاصة تستوجب موضعة اليهودي – الإسرائيلي في مرتبة تتفوق على غيره ضمن مقتضيات طلب المغفرة والتكفير عن الذنب، والذي يجعل الألماني، السياسي والفيلسوف على وجه الخصوص، محبوساً في الماضي الذي لن يخرج منه طالما بقيت سردية الهولوكست منغرسة في الوعي الجمعي الألماني، وجعلها مجهر الرؤية لكل ما يحسبها تهديداً «للحياة اليهودية وحق إسرائيل في الوجود» كما جاء في بيان هابرماس ورفاقه.

التحيّز السياسي لدى هابرماس ليس مفصولاً عن تحيّزه الفلسفي، وكلاهما يلتقيان عند عقدة الذنب الألماني، وأراد نحل اليهود امتيازات استثنائية فلسفية وعرقية لتكون جزءاً من التعويض النفسي. نلحظ في كتابه «الفلسفة الألمانية والتصوّف اليهودي» إرجاعه نشأة ابستمولوجيا العلوم الحديثة إلى إلإشكالية الصوفية اليهودية، وإعلاء الدور الفكري للطليعة في المجتمع الألماني، بناءً – حسب دعواه – على مفهوم الخلاص الصّوفي الكابالي بصفته أساس نظرية المعرفة الإنسانية والفلسفة الوجودية بل والدعوة الإنسانوية الماركسية. وعلى خلاف موقفه من الدين عامة ووصمه بالعقم في حركة الفلسفة وفي عموم التراث المعرفي الإنساني، صاهر هابرماس بين اليهودية والفلسفة، وخلص إلى أن مفهوم العقل بصفته المصدر الأول برز أول مرة من خلال أقوال الأنبياء اليهود. كما جعل الروحية اليهودية حاكمة على علم الاجتماع الألماني منذ عصر لودفيك غومبلوفيتش. مع أن هابرماس التزم موقفاً متشدّداً من الفكر الإسلامي الذي أدرجة موصوماً في خانة «الأصولية» وعدّ أيّ محاولة يقوم بها الفكر الإسلامي للإسهام في دورة المناقشات الفكرية المعاصرة انتهاكاً لحرمة الحداثة.

في بيان «مبادئ التضامن»، انقلب هابرماس على كونيّته، ويقينيّاته في الفلسفة التواصلية، بل وحتى على منهجه في الانفتاح على الفلسفات والمدارس الفكرية الأخرى، بانحيازه إلى اليهود الألمان ضد من سمّاهم «أولئك الذين يقيمون في ألمانيا» بنزع صفة المواطنة عن الأجانب الذين هاجروا إلى ألمانيا وحصلوا على جنسيتها، ولكن «معاداة السامية» أصبحت مبرراً لإلغاء حقوق المواطنة والجنسية، وكأنه يمنح فئة من الناس حق التعبير والتواصل في الفضاء العام وسلبه من فئات أخرى. انقلاب هابرماس على فلسفته التواصلية، بما تتضمنه من دعوة حوارية مفتوحة وتلاقٍ بين الثقافات والأديان عامة دون افتئات أو مصادرة من طرف لآخر، عطّل إمكانية الركون إليها عبر الانزياح غير الأخلاقي، وهو ما سمّاه المفكر المغربي محمد المعزوز «مُضمر التّجنيد العرقي» وراء اليهودية.

لا فصل بين هابرماس فيلسوف الأخلاق التواصلية وهابرماس المواطن الألماني المسكون بعقدة «الهولوكوست»، فلم يعهد عنه مناصرته لأيّ قضية عادلة على الرغم من خلفيته الماركسية. فقد تصرّف هابرماس من موقعه الألماني وليس الكوني، على عكس آينشتاين الذي اختار عالميته على يهوديته برفضه العرض الذي قدّمه له بن غوريون سنة 1952 بتولّي رئاسة الكيان الإسرائيلي. وهذا ما لفت إليه المفكر المغربي محمد المعزوز الذي طالب بخلق مسافة نقدية مع فلاسفة الغرب، وشدّد على إنسانية المعرفة بانتصارها للقيم الثابتة للبشرية.

يصعب نبذ الحمولة الفلسفية والفكرية التي قدّمها هابرماس ومساهماته الفارقة في تزخيم العقل عبر نظرية اجتماعية متطوّرة تستدمج فخر المنتجات المعرفية الإنسانية على ضروبها في نظام معرفي جامع. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن التنازل عن قيم إنسانية سحقت في العدوان الإسرائيلي على غزة، وأن انحياز هابرماس ضد قضية عادلة وشديدة الوضوح ليس مجرد سقطة عابرة، بل هو عن سابق إصرار ودراية، وهو عار أخلاقي لا يمحى بسهولة. أثبت هابرماس أن العقل الإقصائي الأوروبي لا يزال سادراً في نسيج تفكيره، هذا العقل الذي يقسم العالم إلى «نحن وهم»، و«نحن» هنا التي تمنح الشرعية وتصوغ الرؤية حول العالم وتعدّ قوائم الأخيار والأشرار، ومن لهم حق الحياة ومن يحكم عليهم بالموت، وهنا نستخدم أدوات هابرماس نفسه في التواصلية حيث يحتجب آخرون عن رؤيته التواصلية والديموقراطية التداولية والحوار غير المشروط أمام حضور كثيف للأنا الإقصائية، الأوروبية وملحقاتها. إنها «البوصلة الأخلاقية الملتوية» كما سمّاها المفكر الأميركي من أصل إيراني آصف بيات، التي تتوكأ على استثناء ألماني محمولاً على معايير تفاضلية تجعل من بعض الناس جديراً بالحياة، وبعض آخر جدير بالموت والفناء.

* قيادي في “لقاء” المعارضة في الجزيرة العربية

المصدر: صحيفة “الأخبار” اللبنانية