أخبار عاجلة
القيادي في "لقاء" المعارضة في الجزيرة العربية، الدكتور فؤاد إبراهيم (نبأ)

نعوم تشومسكي: المفكّر اللاسلطوي

* فؤاد إبراهيم

خلال أيّام، انشغلت الأخبار بصحّة نعوم تشومسكي (95 عاماً)، المفكّر والمتخصّص في علم اللسانيّات، والمتمرّد الهادئ على المنظومة الرأسمالية بكلّ تمظهراتها الثقافية والسياسية والاستراتيجية والاقتصادية.الوفي لنزعته الاشتراكية اللاسلطوية، يعتنق شكلاً مِن اللاسلطوية المتصالحة -مرحلياً على الأقل- مع بعض ما يحسبها حسنات الدولة، كونها تقترب وتقرّب مِن الهدف المأمول بنقل بعض مكوّنات السلطة إلى المجتمع.

وعلى الرغم مِن نزعته الإلحادية، يبدو تشومسكي مرناً، على الأقل، إزاء الدولة. فهو لا يجد تناقضاً بين التمسّك بالمثل اللاسلطوية والسعي وراء نزرٍ مِن الإصلاحات الضرورية مِن داخل الدولة، ولا سيما عندما تكون هناك فرصة لمجتمعٍ أكثر حرّيةً وعدالة على المدى القصير. وهذه المرونة تعود، في جانبٍ رئيسي منها، إلى عامل السنّ، فقد كان تشومسكي في شبابه أناركياً متطرّفاً، ولكنّه في سنّ الشيخوخة بدا مستعدّاً للتنازل عن مثاليّته لمصلحة الانفتاح على منظومة الدولة. ويصدر تشومسكي عن قناعة فحواها أنّ جوهر اللاسلطوية هو: الاقتناع بأنّ عبء الإثبات يجب أن يقع على عاتق السلطة، ويجب تفكيكها إذا كان هذا العبء لا يمكن تحمّله.

يميل تشومسكي إلى خيار تحرير الإنسان من الاستغلال الاقتصادي والاستعباد السياسي والاجتماعي مِن خلال إعادة بناء الحياة الاقتصادية للشعوب على أُسسٍ اشتراكية، وليس بالاستيلاء على الدولة. ومع ذلك، فإنّ تشومسكي، والحال نفسه بالنسبة إلى كروبوتكين، أحد آباء الأناركية (اللاسلطوية)، في مقاربته النقابية، يميل إلى الإفادة مِن مؤسّسات الدولة وتشريعاتها لتطوير مفاهيم لاسلطوية، إذ تؤول في نهاية المطاف إلى تحقيق الغاية النهائية مِن اللاسلطوية. ويجادل بأنّ الضرائب التصاعدية والضمان الاجتماعي إذا أفسح السبيل لتطويرها وتوسيع نطاقها ستكون لاسلطوية. وهذا يشي بخطّة تشومسكي في طريقة تأهيل المؤسّسات والتشريعات القائمة لتكون صالحةً ومتصالحة مع الفكرة اللاسلطوية، وكأنّه يلفت إلى عملية الانقضاض الهادئ على الدولة مِن داخلها عبر تجيير مؤسّساتها، حيث تبدأ ما سمّاه جورج وودوك «المجموعات الطبيعية»، المتطابقة مع الوحدات العاملة في المجتمع، بتشكيل شبكةٍ مِن الإدارة الاجتماعية والاقتصادية وتالياً الحلول مكان الدولة، وبذلك تتحقّق اللاسلطوية. وفق هذه المقاربة، يقترب تشومسكي مِن الاستراتيجية الشيوعية في التعايش مع الدولة والعمل مِن داخلها وصولاً إلى إطاحتها في نهاية المطاف.

لا يخفي تشومسكي تأثير أفكار الأناركي الألماني والعضو الفاعل في الحركة الأناركية اليهودية، رودولف روكر عليه، وقد قدّم لكتابه حول الأناركية النقابية (Anarcho-Syndicalism)، وينطلق فيه مِن مبدأ الخلاص القادم مِن أسفل، أي مِن الإنسان وليس مِن أعلى، أي السلطة الحاكمة. بكلماتٍ أخرى، يراهن روكر على فهم الإنسان الواعي وعمله البنّاء في توفير اشتراطات المجتمع الجديد، الحرّ، ولذلك يتعيّن على الشعب أخذ زمام المبادرة في إدارة شؤون حياته وعمله، وأنّ النضال مِن أجل التحرّر وحده السبيل لاستعادة الطبيعة الحقيقية التي كانوا عليها، وتمّ قمعها وتشويهها ضمن هياكل مؤسّسية جرى تصميمها من أجل الطاعة والإخضاع.

أطروحة روكر في الأناركية النقابية، مبنية على قراءة التحوّلات الراديكالية في أسبانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، حين بدأت فكرة الأناركية النقابية مِن عالَم النشر تجذب مجموعةً مِن المفكّرين الناشطين في أوروبا، والتأسيس لمراجعة نقدية للحركة الاشتراكية في تموضعها داخل مجال عمل الدولة، عبْر الأطر البرلمانية، واستبطان دعوة إلى التحرّر مِن إكراه الدولة، عن طريق تشجيع اتّحادات حرّة وتحرير العمّال مِن سيطرة أرباب العمل، وتمكين النقابات العمّالية لتصبح قوة اقتصادية بديلة.

يلتزم تشومسكي بالرؤية الأصلية للأناركية القائمة على هدم سلطة الدولة، ولكنّه، وبصورة استثنائية وتكتيكية، يدافع عن عناصر معيّنة مِن سلطة الدولة

لناحية الحرّية، يصنّف تشومسكي نفسه على المتعصّبين لها، ولا يعني بها الحرّية الشكليّة التي تمنحها الدولة وتنظّمها، فهذه «كذبة أبديّة» كما يقول، وهي امتيازٌ حصري للبعض يخوّله استعباد البقيّة. ولذلك، يرفض مفهوم مدرسة روسو للحرّية، ليس الحرّية الفردية بل والمدارس الليبرالية البرجوازية الأخرى، لأنّها حرّية محكومة بسلطة الدولة التي تخضع الحقوق الفردية إلى سلطانها، وتؤدّي حتماً إلى تقليص حقوق الأفراد عامّةً إلى نقطة الصفر. يقصد تشومسكي نوعاً وحيداً مِن الحرّية وهو «التطوير الكامل لجميع القوى المادية والفكرية والأخلاقية الكامنة». فالحرّية، في فهم تشومسكي، شرط مسبق لبلوغ النضج التامّ مِن أجل مزاولة الحريّة، وهي ليست هديّة تُمنح عندما يتحقّق النضج، كما تفعل الدولة، وأنّ الليبرالية الكلاسيكية التي عارضت تدخّل الدولة في الحياة الاجتماعية انحرفت عن مَهمّتها وأصبحت معنيّةً بالحفاظ على النظام الاجتماعي الناشئ. مع أنّ الليبرالية الكلاسية، في جوهرها، مناهضة للرأسمالية، وهذا ما دفع هومبولت وميل وآخرين للدعوة إلى تخفيف تدخّل الدولة.

ومع ذلك، وجد في اللاسلطوية مَن يتحفّظ إزاء الحرّية المطلقة، ويرى ماكس شتينر أنّ مبدأ الحرّية هدف عظيم لمعظم اللاسلطوية، ولكنّ التفرّد أو «الملكيّة/التملّك» قد تجاوزها. ومع أنّه يعدّ الحرّية شرطاً للتحرّر مِن بعض القيود، لكنّه يلفت إلى أنّ طبيعة الحياة تجعل الحرّية المطلقة أمراً مستحيلاً.

يوجّه تشومسكي نقداً لاذعاً إلى فكرة ديموقراطية الدولة، ويعدّهما نقيضين لا جامع بينهما، فالديموقراطية تكون محدودة للغاية لخضوعها تحت حكم نخبةٍ استبدادية تتحكّم بالنظام الصناعي، وهذه النخبة تشمل الملّاك والمدراء أو التكنوقراط أو حزب «الطليعة» أو بيروقراطية الدولة.

يلتزم تشومسكي بالرؤية الأصلية للأناركية القائمة على هدم سلطة الدولة، ولكنّه، وبصورة استثنائية وتكتيكية، يدافع عن عناصر معيّنة مِن سلطة الدولة، مثل «دولة الرفاهية» التي تشمل الاعتراف بحقّ كلّ طفلٍ في الحصول على الغذاء والرعاية الصحّية، وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، ولا يجد في ذلك تناقضاً. ويدعو زملاءه الأناركيين إلى الدفاع عن بعض المكتسبات التي تحقّقت في ظلّ الدولة، وتمهّد للوصول إلى الهدف النهائي للأناركية، أي مجتمع حرّ يحكم نفسه بنفسه مِن دون إكراه مِن قِبَل الدولة.

صعوبة المهمّة لدى تشومسكي تبدو مفهومة، في ضوء التأثيرات المدمّرة التي تركتها الرأسمالية على مدى قرنين، وازدادت شراسةً في القرن العشرين. فالرأسمالية المفترسة، كما يصفها، خلقت نظاماً صناعياً معقّداً وتكنولوجيا متقدّمة. فالرأسمالية نظامٌ مِن الشراكة التجارية (Mercantilism)، على أساس إطلاق خطّ تصدير البضائع والسلع وتخفيض إلى أحد أدنى خطّ الواردات، مع استبداديّاتٍ ضخمة تمارِس سيطرةً هائلة على الاقتصاد، والأنظمة السياسية، والحياة الاجتماعية والثقافية، بتعاونٍ كبير مع دولٍ قويّة تتدخّل بقوّة في الاقتصاد المحلّي والمجتمع الدولي.

في النتائج، لا تمثّل الولايات المتحدة مصالح شعبها بل مصالح الأوليغارشية الماليّة المتحالفة مع النخبة السياسية. وهذا ما تؤكّده نتائج استطلاعاتٍ صادرة عن مراكز بحثية ذات مصداقية عالية. وبحسب مركز أبحاث «Pew Research Centre» في عام 2016 كان 65% من الشعب الأميركي يعتقدون بأنّ النظام الاقتصادي في الولايات المتّحدة غير عادلٍ ويخدم مصالح القويّ، وهو ما يعتقده 82% من الليبراليين الديموقراطيين. وفي عام 2020 ارتفعت نسبة الذين يعتقدون بأنّ النظام الاقتصادي الأميركي غير عادل ويخدم مصالح القويّ إلى 70%. وبحسب نتائج استطلاع أجرته وكالة «أسوشييتد برس» ومركز أبحاث «نورك» (NORC) في كانون الثاني/يناير 2020 فإنّ 80% مِن الشعب الأميركي يعتقدون بأنّ الولايات المتّحدة تسير في المسار السياسي الخاطئ.

وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن أن نخلص إلى أنّ استبداديّة الأنظمة السياسية الحديثة جعلت مقاربة تشومسكي واللاسلطويين عموماً أقرب إلى الصحّة، ربطاً بالفجوة المتعاظمة بيْن الحكّام والمحكومين والقطيعة بينهم نتيجة نزوع مَن يمسك بزمام السلطة إلى الهيمنة، ونضوب خيارات الشعوب في المقاومة.

* فؤاد إبراهيم قيادي في “لقاء” المعارضة في الجزيرة العربية

المصدر: صحيفة “الأخبار” اللبنانية