في عام 1993 أو 1994 كنت في محفل علمائي، فلفت انتباهي رجل ذو ملامح عربية حادة، یبدو في العقد الثامن من عمره، نحيف وليس بطويل، في حالة خاصة من الهدوء والسكینة، بزي علمائي بسیط للغایة وعمة سوداء صغيرة لا توحي بـ”نجفيته” ولا “قميته”!
سألت صدیقاً كان قريباً مني عنه، فقال لي: انه السید بدر الدین الحوثي، زعیم الزیدیة في الیمن.. نهضت الیه وكلي شوق بأن التقي من هم مثالنا لكن بنكهة تختلف شيئاً ما عنا! وكأنني أسافر الى القرن الهجري الثاني مستشعراً مواقف زيد الشهيد (رضوان الله عليه) ومقولته الشهيرة التي كنت أخطها على أحد دفاتري منذ السنوات الاولى لعدوان صدام على الجمهورية الاسلامية: “ما ترك قوم حر السيف الاّ ذلوا”.
أجل.. نهضت اليه وسلمت علیه وجلست عنده، فوجدت في حدیثه الصدق والعمق والعزیمة والوضوح.. لم یخطر ببالي حینها أن یكون هذا السید النحیف ذو الملابس البسيطة وأبناءه قادة التغییر في الیمن الذي أفقده حكم علي عبدالله صالح الكثير من سعادته التاريخية وهو یحاول تقليد طاغية العراق صدام حسين في كل حركاته وسكناته.. أو أن یصمد هذا السید وجماهیره في وجه ستة حروب فرضها صالح وآل الأحمر ومن يقف وراءهم علیه، فما زادته الاّ قوةً واصراراً وثباتاً.
والعلامة بدر الدین بن أمیر الدین الحوثي (موالید 1927 في ضحیان ونشأ في صعدة) والد الشهید المؤسس حسین (1956 – 2004) والقائد السید عبدالملك، هو الذي تصدی للمدّ الوهابي – السعودي في الیمن والذي عمد من خلال دعاته والمبشرين به وفي مقدمتهم الشیخ مقبل الوادعي (1356- 1422هـ) مؤسس دار الحدیث في دماج والشیخ عبد المجید الزنداني مؤسس جامعة الایمان في صنعاء و”التي خرجت كل ماله علاقة بالارهاب في الیمن حسب وصف الغربیین”.. الی طمس تراث الیمن ومذاهب اهله (الزیدیة والشافعیة) ونشر التطرف والتشدد بین أبناءه ومحاولة تألیب القبائل علی بعضها من أجل ضربهم ببعض…
السید بدر الدین الحوثي رحمه الله تولی التأسیس العقدي والفكري في المواجهة، فیما تولی ابنه الشهید المؤسس حسین بدر الدین الحوثي، خلق أرضیة المواجهة مع المتطرفین والمرتزقین وأصحاب السلطة، وذلك من خلال تنظیمات حزب الحق لمقاومة الوهابیة وحركة الشباب المؤمن (1992) وحركة انصارالله (2012)…
وفي الفترة 2004 حتى 2009 خاضت الحركة ستة حروب في مواجهة السلطة التي كانت مندفعة من الخارج للقضاء عليهم، أستشهد في الاولی منها قائدها السید حسین بدرالدین الحوثي وكانت السادسة عام 2009 أشدها ضراوة وعنفاً حیث لم یقتصر العدوان علی الجیش الیمني ومرتزقة آل الأحمر والسلفیین (الوهابیین)، بل تعداه الی دخول القوات السعودیة براً وجواً في القتال، حتی قیل ان السعودیة استعانت بقوات من باكستان والاردن بعد فشلها في مواجهة الحوثیین. حیث تكبد السعودیون أكثر من 82 قتیلاً وما یقرب 30 أسیراً وفقدوا العدید من عتادهم ومعداتهم الحربیة ومناطقهم الحدودیة في جبل الدخان وغیره، رغم استخدامهم أسلحة متطورة وأخرى محرمة دولیاً كالفسفور الابیض والقنابل العنقودية.
كانت حروب السلطة ومن وراءها السعودية وباقرار جمیع المراقبین والمحللیین تزید من شعبیة الحوثیین وتجعل العدید من القبائل (من خولان وبكیل وحتی حاشد) تلتحق بهم، لأسباب كثيرة، منها:
1. معارضة سیاسة الحكومة في الارتماء بحضن الغرب وفتح البلاد امام التدخلات الغربیة وخاصة الامیركیة، في مرحلة تعتبر ذروة الهجوم الغربي على البلاد الاسلامية لمجرد المحافظة والبقاء في السلطة.
2. استياء غالبية الشعب اليمني من العنجهية والتدخلات السعودية السافرة وتأليب القبائل ضد بعضها بالمال وشراء الذمم.
3. دكتاتورية الرئيس علي عبد الله صالح وآل الأحمر للحد الذي وصل الصراع بين صالح وعلي محسن الأحمر على التوريث وانقسمت المؤسسة العسكرية الى جيشين كل منهما يمثل طرف في الصراع.
4. سوء الاحوال الاقتصادية وتفشي المحسوبية والمنسوبية واستئثار زعماء القبائل وبعض الشخصيات بمقدرات البلد وثرواته في مقابل أغلبية مصادرة حقوقها وطبقة متوسطة تتلاشى يوماً بعد آخر.
5. بحث الشباب اليمني عن هويته التاريخية الضائعة بسبب الهجمة السلفية الوهابية الممالية للسلطة والتي تعتبره “ولي الأمر” وتحرم الخروج عليه، هذه الهجمة السلفية الوهابية التي عمدت الى تدمير التراث المذهبي الزيدي والشافعي، خاصة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
6. وطنية وشمولية الطرح الذي تبناه الحوثيون، فلم تكن شعاراتهم وطروحاتهم مذهبية ولاقبلية ولامناطقية.. بل مشروع يخاطب جميع اليمنيين ويؤكد على القواسم والهموم المشتركة وفق دولة مدنية تبسط العدل وتلغي التفرقة.
7. ومما ساعد في هذا كله المكانة التي يتمتع بها الحوثيون دينياً واسرياً وقبلياً، فهم لب الزيود ومرجعيتهم الدينية لاغبار عليها، وهو ما يمكن رؤيته في مؤلفات العلامة السيد بدر الدين الحوثي في الرد على الوهابية والدفاع عن العقيدة الزيدية، وايضاً محاضرات الشهيد السيد حسين بدر الدين.
لم يمض الكثير على الحرب السادسة، حتى صار النظام على موعد مع ما عرف بثورات “الربيع العربي” التي وصلت رياحها الى اليمن.. فثار اليمنيون في مارس/آذار 2011 وفي مقدمتهم الحوثيون في وقت كانت القوى السلفية والمرتبطة بالسعودية تحرم الخروج على علي عبد الله صالح معتبرته ولياً للأمر!
لكن المؤامرة التي عرفت بـ”المبادرة الخليجية” بالتعاون مع زعماء حزب الاصلاح من آل الأحمر، التفت على الثورة ووأدتها، فزادت الأوضاع سوءاً عما كانت عليه قبل 2011..
فكانت الثورة الاخيرة بقيادة السيد عبد الملك الحوثي زعيم انصار الله، انتصاراً لكل الجماهير في اليمن من عدن الى صعدة ومن شرق حضرموت حتى سواحل البحر الأحمر..
ان انتصار ثورة الجماهير اليمنية بزعامة انصار الله ضد قوى الهيمنة والاستثمار والعمالة والاجندات الدولية والاقليمية، يبين في جانب آخر منه وضوح الرؤية عند قيادة الثورة وزعماء الحركة وقدرتها في استيعاب الحالة اليمنية رغم تداخلاتها وتشابك العناصر المؤثرة فيها.. هذه الزعامة التي نشأت في خضم الصراع وصميم المواجهة، فلم يكن السيد عبد الملك سوى ابن عشر سنين عندما انطلقت الحركة على يد شقيقه الشهيد السيد حسين عام 1992، ولم يكن يتجاوز الرابعة والعشرين وهو ينهض بمسؤولية قيادة الحركة عام 2006 خلفاً للشهيد.
أجل، هذا الوضوح في الرؤية والسلامة في الأداء والسيرة والصمود والثبات على الحق.. وهذه الملامسة للواقع واستشعار مطاليب الناس الحقيقية، الى جانب “ترابية” الكوادر والناشطين، هو الذي صنع النصر في اليمن، كما صنع منقبل اكثر من انتصار في جنوب لبنان على يد سيد المقاومة في “الشمال” السيد حسن نصر الله!
مبروك لشعب اليمن هذا القائد ومبروك لثورة اليمن انتصارها…
بقلم: علاء الرضائي
(المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها)