مقالات مختارة -صحيفة “الاخبار” اللبنانية الإثنين 9 تموز 2018
أكثر من 6 أسابيع مرت على إطلاق تحالف العدوان حملته المسماة «الرعد الأحمر» لـ«تحرير» مدينة الحديدة ومينائها. فترة طويلة خالفت الوعود الإماراتية والسعودية بعملية «خاطفة»، وأتاحت للجيش اليمني واللجان الشعبية الانتقال من وضعية الدفاع إلى الهجوم. في ما يُرى من أفق هذه المعركة، لا يبدو سوى أن القوات المشتركة ماضية في تعزيز «المعجزة العسكرية» التي تجلّت على الساحل الغربي لليمن، فيما تتجه التشكيلات الموالية لـ«التحالف» نحو مزيد من التشظي والاستنزاف، بعدما تمّ تجميعها عشوائياً دونما أي عقيدة قتالية مشتركة.
21 ألف مقاتل من السلفيين والسودانيين والحرس القديم من قوات النظام اليمني السابق دفعت بهم الإمارات، الشريك الأبرز للسعودية وأميركا في تحالف العدوان على اليمن، للسيطرة على مدينة الحديدة ومينائها المطلّ على البحر الأحمر. أقلّت السفن الإماراتية هذا الجيش الجرار، المتعدد الولاءات والمعتقدات، من ميناء مصوع في إريتريا، بعد أشهر من تجميع مقاتليه وتدريبهم في القواعد الأميركية في القرن الأفريقي، إلى ميناء المخا، ليطلق «التحالف» في الـ14 من أيار/ مايو 2018 عملية «الرعد الأحمر» لـ«تحرير ميناء ومحافظة الحديدة».
1200 مدرعة إماراتية تتقدّمها كاسحات الألغام تحركت من مدينة المخا صوب محافظة الحديدة، مسبوقةً بقصف سجادي من الجو والبحر على مواقع الجيش اليمني واللجان الشعبية في المناطق الساحلية من المحافظة. اشتعلت المواجهات على الأرض ووَعدت الإمارات بعملية «خاطفة»، وانتعشت آمال «التحالف» في تحقيق نصر يغيّر موازين القوى لمصلحته بعد 3 سنوات من الهزائم المتوالية في أكثر من 40 جبهة قتال يمولها بالمال والسلاح. حملة سياسية وإعلامية رافقت الهجوم، وبشّرت باجتياز قوات «التحالف» مسافة 150 كلم من الطريق الساحلي، ووصولها إلى مطار الحديدة.
وبعد مضي 6 أسابيع من إطلاق العملية، أعلن وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، من لندن «وقف الهجوم على الحديدة ودعم جهود السلام الدولية»، مناشِداً «الأمم المتحدة الضغط على الحوثيين لتسليم ميناء الحديدة والقبول بحل سلمي». فأين ذهبت وعود الوزير قرقاش وقوات «العمالقة» و«الحرس الخاص» و«الرعد الأحمر»؟ ولماذا تخلى «التحالف» عن عنترياته فجأة ومن دون مقدمات؟
أحال المقاتل اليمني عملية «الرعد الأحمر» «موتاً أحمر». بالـ«كلاشينكوف» وصواريخ الـ«كورنيت»، خرجت وحدات الجيش واللجان من خنادقها في بطن رمال الساحل الغربي، ومن بين أشجار النخيل والمانجروف لتحرق المدرعات الإماراتية بمن فيها على الطريق الرابط بين مدينتي الخوخة والحديدة، وتحاصر الكتائب التابعة لـ«التحالف» في مدينة حيس وقرية منظر ومنتجعات النخيل والفازة والجاح، وتقطع أوصال الأرتال التي تسللت في الساحل كأفعى، ويتوقف الإمداد من المؤخرة بعد فصل الرأس عن الوسط عن الذيل. يتدخل الطيران الحربي وطيران الـ«أباتشي» لتمكين البوارج الحربية من إخلاء كتائب «العمالقة» المحاصرة في منتجع الفازة على ساحل مديرية التحيتا، لكن البوارج تعجز عن الاقتراب من الشاطئ بعد استهداف القوة البحرية اليمنية بارجة إماراتية في الأيام الأولى من عملية «الرعد الأحمر» قبالة التحيتا.
هكذا، لم يتبقّ للوحدات السودانية المستأجرة، ومجاميع السلفيين المحاصَرين في أكثر من بؤرة في الساحل، سوى مواجهة الموت بنيران الجيش واللجان، أو انتظار القوارب التي يبعث بها «التحالف» كوسيلة أخيرة للهرب. لا رعد ولا برق لـ«التحالف» في الساحل الغربي، بل مقاتلون يمنيون يحرقون المدرعات الإماراتية بـ«القداحات»، ويواجهون القادمين من الشاطئ الآخر بصواريخ الـ«كورنيت» والرشاشات التي ابتكروا طريقة لتثبيتها في مقدمة الدراجات النارية التي صارت وسليتهم الرئيسة ليصولوا ويجولوا بها في أرض المعركة. تلك هي المعجزة التي تحدث عنها أمين عام «حزب الله»، حسن نصر الله، في خطاب متلفز له قبل أيام، قال فيه أيضاً مخاطِباً المقاتلين اليمنيين: «يا ليتني كنت معكم، يا ليتني أستطيع أن أكون مقاتلاً من مقاتليكم تحت راية قائدكم العزيز والشجاع»، في تمنّ أضحى أيقونة الصمود على الجبهات كافة.
تؤكد مصادر متعددة من المناطق الواقعة تحت سيطرة «أنصار الله»، لـ«الأخبار»، أن «حديث نصر الله عن معركة الساحل الغربي أسهم في تدافع الآلاف من أبناء القبائل اليمنية إلى محافظة الحديدة للتطوع في الدفاع عن سيادة بلدهم واستقلاله»، مضيفة أن «قيادة الجيش واللجان الشعبية أعادت توزيع فائض المقاتلين الذين توافدوا إلى الحديدة على بقية الجبهات»، وأن «خطاب نصر الله لا يزال يتردد حتى اللحظة في المحافظات الشمالية والإذاعات المحلية وأجهزة الاستماع في سيارات المواطنين ومنازلهم، كوسام شجاعة وتكريم لليمنيين من سيد المقاومة وبطل حرب تموز في مواجهة الكيان الإسرائيلي الغاصب».
جرائم الحرب ونهب الثروات
يحاول «التحالف»، وفي المقدمة الإمارات، تبرير إعلانه وقف الهجوم على الحديدة بالحرص على سلامة المدنيين والحفاظ على حياة 600 ألف مدني يسكنها. لكن مصادر طبية في محافظة الحديدة تكشف، لـ«الأخبار»، عن «سقوط 180 قتيلاً من المدنيين، وإصابة 320 آخرين في مدينة الحديدة وعدد من مديريات المحافظة بقصف من طائرات التحالف وبوارجه البحرية خلال حزيران/ يونيو الماضي». وتقول الأمم المتحدة إن هجوم «التحالف» للسيطرة على ميناء الحديدة تسبب في نزوح 121 ألف مدني. معظم هؤلاء اختاروا التوجه صوب العاصمة صنعاء والمحافظات الواقعة تحت سيطرة «أنصار الله»، بعدما منعت ميليشيات «الحزام الأمني» التي أنشأتها الإمارات دخول عشرات الأسر النازحة من الحديدة إلى عدن والمحافظات الجنوبية. ويؤكد ناشطون وحقوقيون، لـ«الأخبار»، أن «جنود نقطة التفتيش التابعين للإمارات في منطقة الزيتونة بمحافظة لحج أجبروا عشرات الأسر النازحة على النزول من السيارات، وأوقفوهم في العراء تحت حر الشمس وصقيع الليل لأكثر من يومين، ومعظمهم من النساء والأطفال، وبعدها تم إبلاغهم بعدم السماح لهم بالدخول والتعامل معهم كإرهابيين مفترضين».
حديث نصر الله عن المعركة أسهم في تدافع الآلاف نحو الحديدة
ولم تتوقف جرائم «التحالف» بحق المدنيين عند ذلك الحد، فقد حرمت سفنه وبوارجه الحربية 10 آلاف صياد من مزاولة مهنتهم في المياه اليمنية في البحر الأحمر، وقصفت عدداً من القوارب، وقتلت عشرات الصيادين. ويكشف الناشط الحقوقي في محافظة الحديدة، مجاهد القب، لـ«الأخبار»، أن «عشرات السفن المصرية تمارس الصيد وجرف الشعب المرجانية في المياه اليمنية في البحر الأحمر من قبالة ذوباب والمخا والخوخة والحديدة والصليف وحتى جزيرة عكبان». ويضيف القب أن «المريب أن بعضاً من تلك السفن تعمل على مسافة 5 أميال بحرية، وكأنها في مأمن من أي عوائق أو أن جهة ما منحتها الإذن بتدمير الشعب المرجانية في مياه اليمن».
جرائم حرب وانتهاك للسيادة ونهب للثروات اليمنية تجري تحت لافتة «إعادة الشرعية». وهذه الأخيرة تبيّن زيفها مجدداً بعد منع الإمارات إشراك القوات التابعة للرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، في معارك الساحل الغربي. وبحسب مصدر في مكتب الرئاسة في عدن، تحدث إلى «الأخبار»، فقد «وجه الرئيس هادي (مع بداية الهجوم على الحديدة) بتحريك اللواء الرابع – حماية رئاسية بقيادة العميد مهران القباطي من عدن إلى الخوخة بناءً على اتفاق مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، لكن قائد القوات الإماراتية في عدن أبلغ الرئاسة بعدم الحاجة إلى قوات إضافية» (كان هذا قبل أن يضطر «التحالف»، خلال الأيام الماضية، إلى الاستعانة بـ«ألوية الحماية» لرفد القوات المحاصَرة على جبهة الساحل).
الجمع بين الأضداد
خمسة ألوية مسماة «ألوية العمالقة» دفع بها «التحالف» لـ«تأمين» أطراف مدينة الحديدة بحسب مركز «أبعاد» اليمني للدراسات الاستراتيجية، فيما أوكلت مهمة السيطرة على ريف الحديدة إلى أربعة ألوية أخرى هي عداد ما تسمى «المقاومة التهامية». وإلى جانب ذلك، ووفق تقرير المركز البحثي نفسه، «ثمة قوات خاصة بنجل شقيق الرئيس السابق (طارق صالح) مهامها تأمين المدن الثانوية والقرى خارج الحديدة، وهناك أيضاً ألوية إسناد وتغطية من بينها لواء في المؤخرة يقوده اللواء هيثم قاسم طاهر، ولواء يقوده نبيل المشوشي قائد الحزام الأمني في عدن».
كل هذه الحشود التي دفع بها «التحالف» تبددت في ساحل الحديدة. 25 مديرية لا تزال تحت سيطرة الجيش واللجان الشعبية اللذين لم يخسرا حتى اليوم سوى مديرية الخوخة، وهذه لم يعد لقوات «العمالقة» المحاصَرة داخلها من منفذ للإمداد سوى عبر البحر، في حين تقطعت السبل بكتائب أخرى من «العمالقة» بعد محاصرتها في المنتجعات الساحلية. الناشط في صفوف «المقاومة الجنوبية»، جمال الصبيحي، يرى، في حديث إلى «الأخبار»، أن «تنصل التحالف من فك الحصار عن أبنائنا في الساحل الغربي يحمل مؤشراً خطيراً إلى إرادة دولية للتخلص من قوات العمالقة المصنفة سلفية جهادية، بعدما حُشرت بين البحر وطوق الحوثيين من البر، لتتجرع الحصار والحر الشديد، ويترك التحالف الجرحى منها ينزفون حتى الموت من دون إسعاف، كما يترك جثث القتلى في الصحراء». ويضيف الصبيحي أن «معركة التحالف في الساحل الغربي متناقضة الأهداف، وتضع أكثر من علامة استفهام، ففي الوقت الذي تسوّق فيه الإمارات لألوية العمالقة أن الهدف من المعركة القضاء على الحوثيين والثأر لتهجير السلفيين من دماج ونشر التوحيد في تهامة حيث المذهب الصوفي المبتدَع، تقدّم للحراك التهامي (فصيل عبد الرحمن شوعي حجري) الوعود بحكم ذاتي لإقليم تهامة، كما تفسح الطريق لنجل شقيق الرئيس السابق العميد طارق صالح لأخذ الثأر والانتقام من الحوثيين، وتَعِده مع نجل صالح المقيم في أبو ظبي بتمكينهما من محافظة الحديدة كدائرة مغلقة لحزب المؤتمر، كما هي حال محافظة مأرب واستحواذ حزب الإصلاح عليها».
ويعتبر الصبيحي أن «ألوية العمالقة هي الخاسر الأبرز بخوضها معارك خارج حدود الجنوب»، لافتاً إلى «تجاوز عدد قتلاها الذين سقطوا في الهجوم على الحديدة 1622 قتيلاً، إلى جانب إصابة أكثر من 3 آلاف آخرين بينهم 763 معاقاً». ويشير، كذلك، إلى «محاصرة كتائب من العمالقة في الساحل الغربي بالنخيلة والجاح والفازة، ومقتل الكثيرين من عناصرها»، متابعاً أن «التحالف اهتمّ بإجلاء أصحاب الرتب الرفيعة بزوارق حربية، وتَرَك جثث العشرات من القتلى والجرحى البسطاء ينزفون حتى الموت في ساحة المعركة، ومن تبقى منهم وقع في أسر الحوثيين».
اليوم، وبعد تراجع الحملة العسكرية والسياسية والإعلامية لـ«التحالف» في الساحل الغربي، وتبدل مواقع الجيش واللجان من الدفاع إلى الهجوم، يؤكد القيادي الميداني في «أنصار الله» على جبهة الساحل الغربي، أبو نصر الشعف، أن «المعركة مصيرية للجيش واللجان، وأن خسارة مرتزقة العدوان في الساحل صارت مؤكدة بعدما مرّغ الحفاة المدافعون عن أرضهم وكرامتهم أنوف جحافل الغزاة والمستأجرين في التراب». ويضيف الشعف: «أنصح تحالف الغزاة بأخذ الدروس والعِبَر مما تكبدوه وما لحق بهم إلى اليوم، والانسحاب بما تبقى لهم من المرتزقة… برِّروا انسحابكم بالحرص على حياة المدنيين، اكذبوا كعادتكم وعودوا أدراجكم قبل أن لا تعودوا».