النفط سلاح، ولكن ضد من؟ حين هدد الملك السعودي الاسبق، فيصل بن عبد العزيز، خلال حرب اكتوبر 1973 بوقف امدادات النفط عن الغرب، كانت النتيجة حدوث طفرة نفطية غير مسبوقة، دفعت دول مجلس التعاون لدخول حقبة الرفاه المادي والنفوذ السياسي. كان ذلك التهديد «سلاحا» استخدم بشيء من الفعالية في معركة مشروعة.
اليوم يستخدم النفط سلاحا ولكن باتجاه معكوس، لان السعودية تستخدمه، ليس للضغط على الاقتصادات الغربية من اجل تحقيق اهداف واضحة ومحددة، بل كعامل مرجح في موازين القوى الاقليمية، حسب التقديرات السعودية، ومريح للاقتصاد الغربي من جهة اخرى. فبرغم المناشدات بخفض الانتاج السعودي لاحداث التوازن في السوق العالمية بين العرض والطلب والحفاظ على اسعاره، تصر الرياض على اغراق السوق بهذه السلعة للضغط على البلدان الاقليمية الاخرى التي تعتبرها «منافسة» لها في النفوذ الاقليمي، خصوصا ايران والعراق وحتى بعض دول مجلس التعاون.
هذه المرة يأتي الاحتجاج على هذه السياسة من بعض الدول الغربية التي كانت في السابق الهدف الاول من خفض الانتاج. فأميركا التي تجاوزت السعودية مؤخرا كأكبر منتج للنفط، بدأت احتجاجا صامتا لأن تكلفة انتاج البرميل الواحد لديها يقدر بما يصل الى 70 دولارا للبرميل. هذا يعني ان انخفاض سعر البرميل الى مستواه الحالي (بحدود 80 دولارا) اصبح يضغط على الانتاج الاميركي ليجعله عديم الجدوى. وهكذا يتحول النفط سلاحا تارة اذا ارتفعت اسعاره، واخرى حين تنخفض.
ووفقا لاتفاقات سابقة داخل منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) فقد اعتبرت السعودية «المنتج المتغير»، فترفع انتاجها لسد النقص في السوق اذا ما تراجع انتاج بلد آخر لاسباب فنية او سياسية، وتخفض انتاجها اذا ما كان هناك فائض يهدد الاسعار بالانخفاض.
سياسات الانتاج النفطي منذ تأسيس منظمة اوبك قبل اكثر من نصف قرن، وتصاعد اهمية النفط للاقتصادات الغربية، دفعت الغربيين للاستثمار الكبير في مجال البحث عن مصادر بديلة للطاقة. بل ان الدول النفطية نفسها بدأت بشكل جاد البحث عن البدائل ايضا، وشرعت في المشاريع النووية لتوليد الطاقة، كما فعلت ايران وتبعها عدد من الدول العربية والاسلامية. وثمة قناعة واسعة بان الطاقة النووية لا توفر بديلا حقيقيا للنفط، بل تسد جانبا من حاجة الدول الكبرى فحسب، فهي مكلفة ماديا، ولها تبعات بيئية ومخاطر صحية غير قليلة، فالتخلص من اليورانيوم المنضب يمثل مشكلة حقيقية ومصدرا خطيرا لانتشار الاشعاعات الخطيرة.
الغربيون، من جانبهم، سعوا لتوفير مصادر بديلة ما يزال اغلبها قاصرا عن توفير بديل حقيقي للنفط. فالطاقة الشمسية مصدر رخيص ولكن التكنولوجيا الضرورية لاستخلاصها ما تزال باهظة الثمن وغير فاعلة بالشكل المطلوب. كما ان الطاقة المستفادة من الرياح مفيدة ولكن على نطاق محدود وبتكلفة غير قليلة. وقد انتشرت في العقود الاخيرة «طواحين الهواء» التي تستعمل الرياح لتشغيل المراوح الكبيرة لتوليد الطاقة الكهربائية. هذه المحاولات لم تؤد لتوفير بديل حقيقي للنفط، وان كانت تسد جانبا من الحاجة. وقبل بضع سنوات توصلت البحوث الغربية لطرق حديثة لاستخراج الغاز المبعثر بين الصخور عن طريق ما يسمى «فراكينج»، اي ضخ التراب والحصى في انبوب واسع لتوجيه الغاز المبعثر الى السطح. هذا في المناطق التي لا يتوفر الغاز فيها بكميات تجاربة كبيرة. وفيما كانت نسبة الغاز المستخلص بهذه الطريقة في الولايات المتحدة في 2001 لا يتجاوز 1 بالمائة من انتاجها الغازي الكامل، فقد بلغت النسبة الآن حوالي عشرين بالمائة ويتوقع زيادتها باضطراد لتتضاعف خلال العشرين عاما المقبلة. وفي شهر تموز/ يوليو الماضي اصبحت اميركا المنتج الاول للنفط والغاز، متجاوزة بذلك كلا من السعودية وروسيا، وستبقى كذلك بعض الوقت ليصل انتاجها النفطي الى اكثر من 13 مليون برميل يوميا بعد خمسة اعوام.
السعي الغربي نحو الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الشرق الاوسط لاستيراد الاحتياجات النفطية او على روسيا لتزويد اوروبا بالنفط حلم يراود الحكومات الغربية منذ عقود. وقد ساهم ارتفاع اسعار النفط خلال السنوات العشر الاخيرة في تطوير عمليات البحث عن بدائل للطاقة تارة وعن النفط والغاز تارة اخرى. فقد بلغ سعر برميل النفط في 2008 حوالي 120 دولارا، ولكن تضافر عوامل عديدة في مقدمتها إصرار السعودية على اغراق الاسواق بالنفط ساهم في دفع الغربيين لتطوير امكاناتهم التكنولوجية سواء في مجال استخراج النفط والغاز ام تطوير المصادر الاخرى للطاقة كالشمس والرياح والصخور التي تحتوي على غاز بكميات غير تجارية حسب طرق الاستخراج التقليدية.
وفي الاحوال العادية يفترض ان يشعر الغربيون بالارتياح من زيادة الانتاج السعودي وتراجع اسعار النفط، ولكن الغربيين الذين تعايشوا مع اسعار النفط العالية يعتقدون ان الاسعار الهابطة ستؤدي الى تباطؤ البحث في البدائل والمصادر الاخرى. اما السعوديون فيرون في التطورات السياسية والميدانية الحالية في المنطقة تهديدا لنفوذهم الاقليمي والدولي، ولاوضاعهم الداخلية واستقرار نظام حكمهم. فهم غير مرتاحين ابدا للتقارب الاميركي ـ الايراني الذي بدأت آثارته تنعكس على صراعات المنطقة. وما جرى في اليمن الشهر الماضي ازعج الرياض كثيرا، لانه أضر باستراتيجية التصدي للثورات العربية وافشال مشاريع التغيير. ولوحظ ان الاميركيين الذين وقفوا ضد الحوثيين في بداية تحركاتهم الشعبية وهددوهم بوضع تنظيم «أنصار الله» على لائحة الارهاب، سرعان ما غيروا موقفهم عندما سيطر الحوثيون على صنعاء بثورتهم السلمية، واحدثوا ما يريدونه من تغييرات بدون اراقة الدماء.
يرى السعوديون ان الموقف الاميركي تناغم مع السياسة الايرانية، وان ذلك احدث ارباكا للاستراتيجية السعودية الهادفة لمنع التغيير السياسي في انظمة الحكم العربية مهما كان الثمن. ولا تخلو سياسة الانتاج النفطي السعودية التي تواصل ضخ ما يعادل ثلث انتاج اوبك، من رغبة في ارباك اقتصادات الدول التي تختلف السعودية معها في السياسات والمواقف. فهي غير مرتاحة من السياسة الاميركية ازاء ايران والعراق وسوريا واليمن ومصر، كما ترغب السعودية في تعويق السياسات الغربية للبحث عن بدائل الطاقة ومصادرها. وتستطيع الرياض استيعاب هبوط الاسعار الى ما دون 80 دولارا للبرميل اعتمادا على احتياطيها المالي الذي يقدر باكثر من 750 مليار دولار، بينما ستواجه روسيا ازمة اقتصادية اذا استمر تراجع الاسعار. فالعائدات النفطية تمثل 46 بالمائة من مجموع دخلها القومي، وتراجعها سيكون احدى الصعوبات امام مشاريع التنمية التي يتبناها الرئيس بوتين. وليس خافيا ان السعودية منزعجة جدا من المواقف الروسية في المنطقة خصوصا دعمها نظام الاسد في سوريا وتحالفها مع ايران. كما ان الرياض تواجه مشكلة مع الكويت بعد قرارها هذا الاسبوع وقف الانتاج المشترك بالمنطقة المحايدة بدون موافقة الكويت.
وتكفي المهاترات التي حدثت اخيرا بين الرياض وطهران لتأكيد تشنج العلاقات بينهما برغم ما بدا من رغبة متبادلة لتطويرها. وجاءت تصريحات وزير الخارجية، سعود الفيصل، الاسبوع الماضي حول ايران ومطالبتها بـ «سحب قواتها» من سوريا ليزيد التوتر بينهما وليدفع ايران لمطالبة السعودية بسحب قواتها من البحرين، وان ذلك سيساهم في حل الازمة في ذلك البلد. ومنذ الثورة الاسلامية في ايران ما فتئت السعودية تستهدف النظام الايراني، وتحرض ضده. وخفض اسعار النفط سيؤثر سلبا على مشروع التنمية الاقتصادية الذي طرحه الرئيس الدكتور حسن روحاني، في اطار ما اطلق عليه «الاقتصاد المقاوم». اما العراق، فسيعاني هو الآخر من تضاؤل عائداته النفطية خصوصا مع استمرار اعاقة التصدير من قبل المجموعات المسلحة التي تدعمها السعودية.
النفط سلاح فاعل يكن توجيهه لدعم قضايا الامة اذا استعمل باسلوب فاعل. ومن الخطأ الكبير الاستمرار في اغراق السوق بكميات من النفط تفوق الطلب، لان ذلك يؤدي لهبوط الاسعار ويعيد المشكلة الاقتصادية في الشرق الاوسط الى ما كانت عليه قبل خمسة عشر عاما. النفط سلعة استراتيجية يمكن ان تساعد الامة على التنمية الاقتصادية والبشرية والامنية، اذا حظيت بادارة ناجحة.
* د. سعيد الشهابي – القدس العربي
المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها