السعودية/ نبأ- قالت صحيفة "الأخبار" اللبنانية، في تقرير للكاتب فؤاد إبراهيم، ان الدولة السعودية في التكوين التاريخي لم تتأسس على فكرة قومية، ولم تكن الأيديولوجية القومية أداة التعبئة التي حشدت الجند، وقاتل من أجل رسوخها أبناء القبائل النجديّة. بجلاء مطلق، إن وسط الجزيرة العربية، ومن منظور تاريخي وجيوسياسي، لم يشكّل بيئة حاضنة للأفكار العربية، بزخمها النضالي والتحرري، ولم يظهر في تلك المنطقة من يغذي المشاعر القومية.
على العكس، فإن المشروع القومي الذي نشأ في الحجاز، غربي الجزيرة العربية، في ظل حكم الأشراف وأرسى أملاً يافعاً لدى ثلّة من الثوّار العرب الذين توافدوا على الحجاز لناحية تحويل الحلم العربي الى دولة عربية كان دائماً يصطدم بمؤامرة مثّل عبد العزيز آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، أبرز أركانها. ولسنا هنا في مقام تقييم تجربة المشروع القومي العربي في الحجاز، ولكنّه في لحظة تاريخية فارقة شكّل، شئنا أم أبينا، منطلقاً لحلم جرى إجهاضه عربياً وبريطانياً وإسرائيلياً وتركياً…
إن فشل مشروع الدولة القومية العربية بزوال حكم الأشراف أفضى الى ظهور الدولة السعودية، ككيان هجين يحقّق في ظاهره حلماً مشوّهاً لوحدة عربية بمواصفات غير عروبية، وحظي برعاية دولية، ينتفي عنه صفة الأصالة العربية.
لم تحقّق الدولة السعودية صفة العروبة في كل مراحلها، إذ بدأت برعاية بريطانية واستدامت بحماية أميركية. ولم يكن فارق صدفة تلك المجابهة الدائمة بين الدولة السعودية وكل الأنظمة العربية التي تبنّت القومية العربية أيديولوجية واستراتيجية. نظرة عامة في الأدبيات القومية على اختلافها (الناصرية، البعثية، الاشتراكية…)، تظهر دائماً ثنائية: الأنظمة التقدّمية التي تعتنق القومية خياراً ورهاناً في مقابل الأنظمة الرجعية المتماهية مع الأجنبي، البريطاني والأميركي على وجه الخصوص.
وإجماعاً، دلّت العروبة على ذاتها عبر تظهيرين:
الاول، الكفاح من أجل تحرير فلسطين من الاحتلال الاسرائيلي.
الثاني، النضال ضد الاستعمار من أجل تحرير الاوطان واستقلالها.
وكانت فلسطين محك وقبلة العروبة… وإن المقاربة السعودية، ومن أي زاوية نظرنا إليها، تنزع عنها الصفة القومية دع عنك الصفة الاسلامية. نحن أمام وثيقة تاريخية لا يمكن التعامل معها بخفّة، فقد تزايدت الأدلة على تأكيدها وثبوت فعل الخيانة إزاء فلسطين. خلاصة الوثيقة أن عبد العزيز بن سعود، مؤسس المملكة السعودية، دخل في مفاوضات سريّة لجهة بيع فلسطين مقابل 20 مليون جنيه وفق وثيقة محفوظة في الارشيف البريطاني برقم CO 733/443/18، CO 733/443/19 وتعود الى سنة 1943.
وتنص الوثيقة:
Reactions in USA: US approach to lbn Saud; discussions with Colonel Hoskins
– Academic and Arabist Harry St John Philby (father of the Soviet spy Kim Philby) proposes handing over Palestine territory to the Jews in return for £20 million compensation. Conspiracy and secret negotiations are evident between Philby and Abdul Aziz Ibn Saud (later king of Saudi Arabia), Chaim Weizmann (President of the Jewish Agency for Palestine and later to become Israel›s first president), Colonel Hoskins (US President Franklin Roosevelt›s special envoy to the Middle East) and even Roosevelt himself. However, after Philby leaks the story to other Arabs, Ibn Saud withdraws from negotiations and denies all previous involvement
وترجمة الفقرة كما يلي:
اقترح الاكاديمي والمتخصص في الشؤون العربية هاري سانت جون فيلي (والد الجاسوس السوفياتي كيم فيليبي) تسليم الأراضي الفلسطينية لليهود في مقابل تعويض بمبلغ 20 مليون جنيه استرليني (نحو 32 مليون دولار). وكانت المؤامرة والمفاوضات السرية تدور بين فيليبي وعبد العزيز ابن سعود (ملك المملكة السعودية)، وحاييم وايزمان (رئيس الوكالة اليهودية في فلسطين وأصبح لاحقاً أول رئيس للدولة الاسرائيلية)، والكولونيل هوسكنس (المبعوث الخاص لرئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت الى الشرق الأوسط)، وروزفلت نفسه أيضاً. ولكن، وبعد أن قام فيليبي بتسريب القضية الى قادة عرب آخرين، انسحب ابن سعود من المفاوضات ونفى أي علاقة سابقة له في الموضوع.
الطريف والمحزن، أن افتضاح خبر صفقة بيع فلسطين دفع عبد العزيز للمبالغة في انحيازه لقضية فلسطين… ولكن ذاك في الظاهر فحسب.
ونتذكر في عام 1936 كيف تدخّل عبد العزيز مع ملوك عرب آخرين وبالتنسيق مع البريطانيين لوقف الإضراب الفلسطيني الكبير. وكان قد أرسل ابنه سعود سنة 1935 لإقناع الفلسطينيين بوقف الاضراب، ووقف الشاعر الثائر الشهيد عبد الرحيم محمود أمام سعود وخاطبه بقصيدة جاء فيها:
يا ذا الأمير أمام عينك شاعر
ضمّت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئتَ تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
أقنع عبد العزيز اللجنة التنفيذية العربية بالتعاون مع لجنة بيل التي عينها البريطانيون في عام 1937، في محاولة لتسوية المشكلة الفلسطينية. وعارض توصية اللجنة بتقسيم الأرض لأن ذلك سوف يقوّي خصومه الأشراف، الذين أصبحوا حكّاماً في إمارة شرق الأردن. كان نهج ابن سعود واضحاً في مؤتمر سانت جيمس في لندن (1939)، عندما دعا ابنه وممثله الخاص الأمير فيصل، لمبادرة بريطانية لوضع حد للنزاع. وقال إنه يؤيد سياسة «الكتاب الأبيض» البريطانية بعد أن فشل المؤتمر. للإشارة فإن «الكتاب الأبيض» الصادر في 17 آيار 1939 كان صكّ اعتراف بتقسيم فلسطين الى عربية ويهودية ودولية، وحين تجدّدت الانتفاضة الفلسطينية لرفض التقسيم استعانت بريطانيا بملكيات عربية حليفة مثل السعودية والعراق والاردن ومصر وليبيا واليمن من أجل تمرير مشروع التقسيم، ثم جاء الكتاب الأبيض بنسخته المطوّرة ليرسي أساس الدولة العبرية بإفساح المجال أمام الهجرة اليهودية عبر حكومة الانتداب.
في المقابل، وفي عام 1940 عمل ابن سعود في إطار جامعة الدول العربية على رفض المقترحات التي من شأنها الإضرار بمصالح الولايات المتحدة وبريطانيا. وتجنب الالتزامات بتقديم مساعدات كبيرة للفلسطينيين وعارض الحرب ضد اليهود. وقام على وجه السرعة بالمصالحة مع قرار الأمم المتحدة الصادر في 29 تشرين الثاني 1947 لتقسيم فلسطين. وفي عام 1948 حين أعلن عن الدولة العبرية وشنّت الجيوش العربية الهجوم، اكتفى عبد العزيز بمشاركة رمزية – بإرسال قوة غير مدرّبة صغيرة تحت القيادة المصرية التي ساهمت قليلاً في المجهود الحربي العربي. دفع الواقع الجديد في المنطقة بعد هزيمة الجيوش العربية ابن سعود إلى الكف عن التدخل في شؤون فلسطين.
في الارشيف البريطاني والإسرائيلي ما يفيد بأبعد من مجرد عزوف سعودي عن الانخراط في قضايا العرب الكبرى، فهناك أدلّة ترقى الى ما يمكن وصفه بالتواطؤ.
فمنها اللقاءات التي جرت بين ديفيد بن غوريون وموشيه شيرتوك مع مستشارين سعوديين كبار في لندن في ثلاثينيات القرن الماضي (من بينهم حافظ وهبة وهو من كبار مستشاري الملك عبد العزيز، وهو مصري الجنسية، وكان كل مستشاري الملك غير سعوديين)، وقال بن غوريون لوهبة «فقط ملوك آل سعود هم قادرون على التأثير على المصالحة التاريخية بين العرب واليهود في فلسطين». هل استدرك الاسرائيليون الأمر حين فشل التطبيع عبر البوابتين المصرية والاردنية، وهاهم يطرقون الأبواب السعودية ومعها أبواب خليجية أخرى (قطرية وإماراتية وبحرينية)؟
التظهير الثاني للعروبة تمثّل في النضال ضد الاستعمار، فكان عقد الخمسينيات ثورة عربية وشرق أوسطية شاملة من أجل الاستقلال عن الاستعمار الاجنبي. وخشي الغرب من تعرض اسرائيل لخطر جدّي من الشعوب العربية الثائرة. ولكن ليس أمضى من «الشقاق الداخلي» سلاحاً لضمان سلامة الكيان الاسرائيلي. فقد انقدحت فكرة الحلف الاسلامي سنة 1957 في لقاء بين الملك سعود والرئيس ايزنهاور، الذي صمّم لمواجهة الشيوعية ظاهراً، ولكن في صميمه تحوّل الى مصدر لحركة القومية العربية كأيديولوجية نضال ضد الاستعمار والرجعية بكل أشكالها.
في المجابهة الاسلامية ـ القومية، كانت فكرة تشكيل الحلف الاسلامي بقيادة السعودية موجّهة في الأساس ضد المشروع القومي العربي. في 5 كانون الثاني سنة 1957 أعلن الرئيس ايزنهاور عن مبدئه في السياسة الخارجية بتعهده تقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية لأي بلد شرق أوسطي بحاجة للمساعدة بهدف مكافحة الشيوعية. وكان الغرض من المبدأ مواجهة النفوذ السوفياتي المتنامي في الشرق الأوسط، والذي نتج من تزويد السلاح لمصر من بلدان شيوعية مثل تشيكوسلوفاكيا في عام 1955 وكانت هي بمثابة غطاء للبائع الروسي للسلاح، وكذلك من دعم شيوعي قومي من بلدان عربية ضد الهجوم الاسرائيلي الفرنسي البريطاني على مصر في أكتوبر 1956. وأكّد ايزنهاور وبموافقة الكونغرس بأنه سوف يستخدم القوات المسلّحة لحماية استغلال أي بلد شرق أوسطي يطلب المساعدة الأميركية.
وكشف الرئيس ايزنهاور في مذكراته خطة احتلال سوريا، وأجرى محادثات بهذا الشأن مع تركيا، لكن مصر أجهضت الخطة بإرسال قوات المظلات إلى سوريا، لمساندة الجيش، وقد تفاهمت السعودية وتركيا على الخطة. وبعد أن تأكدت المخابرات المصرية من وجود خطة أميركية بمشاركة تركيا لغزو سوريا، قرّر عبد الناصر استعجال اعلان الوحدة المصرية السورية. وفضح عبد الناصر مخطّط الحلف الاسلامي، وقال في خطاب عيد الوحدة في جامعة القاهرة، أن أميركا كانت تسعى الى إقامة قوى مضادة للثورة التي تتزعمها مصر آنذاك، وأن آيزنهاور اقترح على الملك سعود شن حملة دعائية إسلامية وإنشاء حلف إسلامي، ودعا آيزنهاور الملك سعود إلى أميركا واستقبله شخصياً بالمطار. حالة الانكار التي تلبّست الملك سعود ومن بعده الملك فيصل إزاء فكرة التحالف الاسلامي، لم تقنع عبد الناصر، خصوصاً دعوى السعودية لفكرة التحالف.
والحال أن مبدأ ايزنهاور قام على تقوية الدول الرجعية المحافظة مثل السعودية والعراق الملكي ولبنان وليبيا لمواجهة الناصرية كترميز لحركة القومية العربية في الخمسينيات وأرادت الولايات المتحدة السير في المواجهة مع الناصرية حتى النهاية وتقوية حلفائها، ولكنها اكتشفت في نهاية المطاف بأن الناصرية قوية الى القدر الذي يستوجب التعايش معها والقبول بها… ولكن بعد فوات الأوان.
وبحسب الاتفاق بين الرئيس إيزنهار والملك سعود، فقد تمّ خلال الخمس سنوات التي تلت عام 1957 تقديم معونة عسكرية أميركية بقيمة 50 مليون دولار للسعودية، وتشمل التدريب والصيانة للقوات المسلحة وبناء مطار الظهران، و20 مليون دولار كمساعدة اقتصادية، للتنمية وتطوير ميناء الدمام بالمنطقة الشرقية، وأن تبيع الولايات المتحدة للسعودية ما قيمته 110 مليون دولار قيمة معدات عسكرية (أنظر كتاب: Salim Yaqub, Containing Arab Nationalism).
وبعد مرور شهر على بدء تنفيذ مبدأ ايزنهاور، وما تضمنه من تعهدات لدعم الحلفاء في الشرق الأوسط، دبّرت المملكة السعودية محاولة انقلاب ضد النظام في مصر في ديسمبر سنة 1957.
وخلال فترة الخمسينيات رفض الرئيس ايزنهاور والشقيقان دالاس (جون فوستر دالاس، وزير الخارجية، والن دالاس، مدير وكالة الاستخبارات المركزية السي آي أيه) مقترحاً سوفياتياً بجعل الشرق الأوسط منطقة محايدة، وتمكين العرب من حكم بلادهم. على العكس، شنّت الولايات المتحدة حرباً شعواء ضد القومية العربية، ومن أجل شرعنة الحرب سعودياً تمّت مكافأة القومية بالشيوعية، خصوصاً بعد اندلاع ثورات عربية من أجل تأميم النفط.
ولم يكن مجرّد صدفة أن تقع سلسلة محاولات انقلابية في السودان (فبراير 1957) وسوريا (يوليو 1957) ومصر (ديسمبر 1957) من قبل جماعات معادية للقومية العربية. وفي فبراير 1958 جرت محاولة اغتيال الزعيم جمال عبد الناصر.
سعى ايزنهاور الى عزل الرئيس عبد الناصر وتحجيم نفوذه لصالح الملك سعود الذي لم يكن يحظى بشعبية على المستوى العربي، بل على العكس بدا الحكم السعودي مهدّداً بعد خروج التظاهرات في الظهران، موقع القاعدة الجوية الاميركية شرقي المملكة السعودية، تهتف بحياة الرئيس عبد الناصر وتندّد بالوجود العسكري الاميركي في المملكة، وزاد على ذلك بروز ظاهرة «الأمراء الأحراء» ولجوء بعضهم الى القاهرة تلبية لنداء العروبة من مصر.
واصلت الولايات المتحدة محاولاتها لتقويض القومية العربية برمزها جمال عبد الناصر، وحرّضت ضباطاً في الجيوش العراقية والسورية والمصرية والسودانية واليمنية وأحزاباً دينية، ومنها جماعات ذات صلة بالاخوان المسلمين وعلى تنسيق مع السعودية من أجل تنظيم حركات تمرّد مسلّحة وإسقاط الانظمة القومية، وبدأ تنفيذ المخطط تباعاً في الفترة ما بين 1961 ـ 1967 من مؤامرة إسقاط الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1961، ثم حرب اليمن في الفترة ما بين 1964 ـ 1967، ومحاولة اغتيال عبد الناصر سنة 1965 عبر ما قيل عن جماعة على صلة بالاخوان المسلمين أطلق عليها جماعة «البحث العلمي» وكانت منشغلة في تصنيع المتفجرات، ووضعت على قائمة أهدافها اغتيال عبد الناصر.
بوفاة عبد الناصر سنة 1970، بدأ ما أطلق عليه الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل بـ»الحقبة السعودية»، نتيجة متغيّرين: بدء مسار التسوية مع الكيان الاسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973، والطفرة النفطية وارتفاع مداخيل النظام السعودي وبدء سياسة «الشيكات» على حساب النضال العربي الذي فقد رمزه التاريخي.
تلك حقبة لم تكن منفصلة عما يشهده الفضاء العربي اليوم من عملية اغتصاب للوعي القومي على يد خصوم العروبة الثورية. عروبة سعودية تعمل ضدّ الذات العربية، وروحها، وتكوينها… إنها العروبة الاسرائيلية بامتياز، عروبة تتصالح مع ضدها النوعي، وخصمها التاريخي وسبب نشوئها وترقيّها.
السعودية ومن ورائها الرجعيون الجدد تسوّروا عروبة عبد الناصر لاختطافها، ولكن هذه المرة باستخدام رافعة مذهبية. ومن سوء طالع هذه العروبة كونها متصالحة مع الصهيونية. ولم يكن محض صدفة أن يعبر قطار التطبيع مع الاسرائيلي على سكة التجييش الطائفي. العروبة السعودية ليست توحيدية على الإطلاق، بل مصمّمة لمناقضة الوحدة العربية، وإعلان الحرب عليها باسمها. خطاب العروبة المنتج سعودياً ليس فيه من سيماء العروبة، وهي نفس الايديولوجية التي حاربت مشروع العروبة الحقيقية بثنائية: الكفاح من أجل تحرير فلسطين والنضال من أجل التحرر الوطني ونيل الاستقلال، ولكن بالأمس كانت ترفع اللافتة الاسلامية واليوم تتلطى وراء عروبة مدجّنة، ولكن الحلفاء هم الحلفاء، والأهداف هي الأهداف… والخيانة هي الخيانة، ولكن مع فارق رداء.