التنقيب عن النفط في حقول الظهران قبل 75 عاماً

“الحركة العمالية شرق السعودية” طالبت الملك سعود باجلاء القاعدة الأمريكية في الظهران

علي عايض القحطاني/

في أربعينيات القرن الماضي، كانت شركات البترول الأميركية (أرامكو في ما بعد) قد اكتشفت الثروة النفطية الهائلة وبدأت عمليات الاستخراج في شرق السعودية. كانت أرامكو تتوسع في نشاطاتها مما دعاها إلى رفع أعداد العمال من أهالي المنطقة الشرقية وكافه مناطق المملكة لتلبية حاجاتها.

وكان لا بد من أن تواجه أرامكو نسبة الأمية المرتفعة بين العمال، حيث لم تكن غالبيتهم الساحقة تجيد القراءة والكتابة. أنشأت الشركة مدارس لتعليم موظفيها، وكانت غالبية المعلمين من سوريا ولبنان وفلسطين. لم يكن المعلمون بعيدون عن صراعات العقائد والمذاهب السياسية المختلفة ذات الاتجاه القومي واليساري في أوطانهم. بل كان بعضهم أعضاء في بعض الأحزاب.

ومن خلال عمليه التعليم، وجدوا في الشباب السعودي آنذاك ارض خصبة وحماس واضح لبث إيديولوجيات كانت غريبة عن المجتمع السعودي وقتها. كان بعض المعلمين يمضون أوقاتاً طويلة مع طلابهم خارج الصفوف الدراسية للنقاش حول ما يجري في الوطن العربي وبالأخص حول الصراع العربي – الإسرائيلي.

لم يكن احتكاك الشباب السعودي بمعلميهم العرب العامل الوحيد الذي يحركهم. فمع ظهور النفط وانفتاح البلد على الخارج أصبح الناس على اطلاع أوسع بمجريات الأحداث في الوطن العربي والعالم، وظهرت الصحف وانتشرت أجهزة الراديو.

وتأثر العمال، بل السعوديون عامة، بالشعارات القومية والمناهِضة الاستعمار والامبريالية، وبحركات التحرر في الوطن العربي. وعلاوة على ذلك، كان العمال السعوديون يعيشون شروطاً قاسية: ساعات عمل طويلة، وأجور منخفضة جدا، وعدم توفر المواصلات، ومساكن مكونة من مجموعة من الخيام بمناطق كثبان رملية عرفت باسم «الحي السعودي»، بينما تمتع باقي الموظفين من أصحاب الجنسيات الأوروبية والأميركية بوسائل نقل ومساكن مكيفة وغيرها من المميزات.

ساهمت تلك الظروف في تبلور وعي لدى العمال، ولدى سكان المنطقة الشرقية ككل. فانتشرت بينهم حركة ثقافية فعلية، وتمكنوا من الاطلاع على مؤلفات وصحف يسارية. بدأ العمال أولى مواجهاتهم مع أرامكو بإضراب عام 1945، ونجحوا في الحصول على مكاسب متواضعة.

وبحلول عام 1952 لعبت مجموعة من العمال دور الطليعة، فاجتمع أفرادها في ثلاث مدن رئيسية لنشاط ارامكو (رأس تنورة وبقيق والظهران) وانتخبوا لجنه من بينهم عرفت بـ «اللجنة العمالية»، نشطت في مخاطبة كل من الحكومة والشركة وتنظيم صفوف العمال. أدرك المدراء الأميركان في أرامكو خطورة اللجنة، أما الحكومة السعودية، وكانت حديثة العهد، فلم تجد ما يثير القلق حيث رأت في اللجنة تجمع عمالي يطالب بمطالب محقة بل أنشأت مكتبا حكوميا للفصل بين العمال والشركة.

نجح المدراء الأميركان باستفزاز بعض العمال النشطاء حتى أخذوا منهم تصريحات تتضمن تهديد بحرق مصافي النفط، فدعا ذلك السلطات السعودية لاعتقال بعضهم. بعد الاعتقال، قام عمال أرامكو بالإضراب الأكبر في تاريخ السعودية، فتوقف عن العمل قرابة العشرين ألف عامل في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1953. اضطرت الحكومة السعودية وأرامكو للتدخل والاستجابة لحزمة من مطالب العمال تمثلت في زيادة الأجور بنسبة 12 إلى 20 في المئة، وتزويد العمال بملابس للعمل وبالغذاء، وتوفير وسائل النقل، والإفراج عن العمال المعتقلين. وانتهى الإضراب في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 1953، من دون ان ينال العمال بالمقابل الحق في التنظيم النقابي.

وفي عام 1956، زار الملك سعود المنطقة الشرقية، فاستقبله العمال بمظاهرة حاشدة. وكانت تلك اللحظة حاسمة في تاريخ الحركة العمالية السعودية حيث ظهرت الجوانب السياسية للحراك العمالي عبر شعارات رفعها المتظاهرون وعريضة مطالب تقدم بها العمال للملك. تضمنت العريضة المطالبة بسن دستور للبلاد، وإجازة الأحزاب السياسية والتنظيمات الوطنية، وتقنيين حق التنظيم النقابي، وإلغاء مرسوم ملكي يقضي بمنع الإضرابات والتظاهر، وإجلاء القاعدة الأميركية في الظهران، وإيقاف تدخل أرامكو في الشؤون الداخلية للبلاد. أوعز الملك لأمير المنطقة الشرقية (بن جلوي) لأخذ التدابير اللازمة للقضاء على الحركة.

وبالتعاون مع أرامكو، استطاع بن جلوي حصر الأعضاء البارزين والقيادات في الحركة والشروع في قمعهم. كانت أحداث عام 1956 آخر الصولات الكبيرة للحركة العمالية، فصحيح أنها لم تشهد حراكاً يذكر بعد العام 1956، ولكنها استمرت في ما بعد على شكل تنظيمات سياسية منتشرة في داخل البلاد، مثل «الحزب الشيوعي السعودي»، و«جبهة التحرير الوطني» التي تزعمها وزير في عهد الملك سعود هو حافظ وهبه، و«الجبهة الوطنية الديمقراطية»، و«حزب البعث السعودي» وغيرها.

استمرت تلك التنظيمات في النشاط داخل الأراضي السعودية وخارجها، حيث قام بعضها بالعمل مع أحزاب وتنظيمات عربية وفلسطينية مثل»الجبهة الشعبية». بل كانت الصراعات بين التيارات السياسية في الوطن العربي تنعكس على الداخل السعودي، كمثل الصراع الذي نشب بين الشيوعيين والبعثيين في المنطقة الشرقية.

أسهمت عدة عوامل في التخفيف من ثقل الحراك العمالي والسياسي ومن ثم القضاء عليه. كان أهمها تركيبة المجتمع السعودي نفسه المنغرس في النسيج الاجتماعي القبلي بشدة (وهو ما زال كذلك). كما ساهمت في هذا الخفوت حملات الاعتقال التي بدأت منذ عام 1956 واستمرت إلى عام 1970 (وهو شهد اكبر موجة اعتقالات دفعت البعض للهروب خارج البلاد والبعض الآخر إلى التوقف تماما أو متابعه النشاط في السر هربا من الاعتقال لسنوات طويلة).

وساهم اعتماد النظام السعودي على الخطاب الإسلامي مدعوما بالمؤسسات الرسمية في أوائل الستينيات، في كبح جماح التيارات اليسارية والقومية ومنعها من الانتشار… ولكن، فلعل على رأس الأسباب التي أدت إلى اضمحلال العمل السياسي والنقابي والمطلبي، هو ارتفاع عائدات النفط في أوائل السبعينيات، ما مكن النظام القائم من توسيع قاعدة المستفيدين من ريوعه إلى حد كبير، ومن استبدال العمالة المحلية بيد عاملة وافدة، عربية فقيرة في البداية، ثم آسيوية غير عربية كما هو الحال اليوم، غير مسيسة تعريفاً، وتأتي لتعمل بواسطة كفلاء، ويمكن طردها لأقل سبب او من دون سبب.

لكن ذلك كله باق في الذاكرة الجمعية لأبناء المنطقة الشرقية (وهم بالمناسبة ليسوا كلهم من «الشيعة» كما يقال، وبكل الأحوال فليست «شيعية» بعضهم هي ما يميزهم عن أقرانهم في سائر مناطق المملكة). فالأمر لم يقتصر على الحراك المطلبي العمالي، بل أصبحت تلك الحركة النواة الأساسية لحراكات أخرى ثقافية وسياسة انتشرت آنذاك في مدن المنطقة الشرقية الغنية بالنفط. وهذا قد يفسر بعض الظواهر الراهنة، من تميزات تظهر في تلك المنطقة ودينامية.

* كاتب من السعودية.