عبد الرحمن أبو سنينة – الأخبار
يبدو أن تجميع الخيوط في المشهد الأردني يزداد سهولة. سباق مع الزمن لئلا يتكرر المشهد العراقي والسوري. إلى الجنوب حيث محافظة معان القبلية. هناك تدور مواجهات بين الدرك وأبناء العشائر المسلحة تحت عنوان جنائي في ظاهره، لكنه أمني وذو علاقة بقتال «داعش» في الداخل قبل الحدود.
تتبع عمّان سياسة قطع الجذور في تعاملها مع «الملف الداعشي» الذي فرض نفسه في المنطقة. هي تعلم أن خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام ليس بعيداً عنها بعدما لامس حدودها، فضلاً عن أنه موجود أصلاً في داخلها، في نسيجها الاجتماعي. طوال السنوات الثلاث من الأزمة السورية ومنذ احتلال العراق كانت المملكة جزءاً من منابع تصدير المقاتلين إلى البلدين، وخاصة أولئك ذوي التوجه السلفي الجهادي الذين منح شيوخهم حرية اعتلاء المنابر والخطابة رغم سجن عدد منهم.
«داوها بالتي كانت هي الداء»، السياسة نفسها يتبعها الأردن الآن، وكان قد استعملها في معتقلاته سابقاً حين أدخل دعاة ليعالجوا تطرف المساجين الإسلاميين. ها هو اليوم قد أطلق سراح عدداً من أولئك المعتقلين ليواجه بهم فكر «داعش»، واليوم تجري محاكمة المتهم عمر عثمان الملقب بـ«أبو قتادة»، وكانت بريطانيا قد سلمته قبل مدة، وهو توقيت لا يناسب وصف المصادفة.
على المستوى الأمني، ليس من الصعب تقدير الخطوات الاستباقية التي سعت إليها الحكومة والقوات الأردنية. من جهة هي دهمت مدينة الحجاج ومحافظة معان (جنوب) تحت ذريعة البحث عن جنائي مطلوب، ما أوقع قتيلاً وجرحى. هي المحافظة نفسها التي نظمت فيها قبل أيام مسيرات احتفالية بـ«فتوحات داعش»، وفرق فيها «الدرك» مسيرات احتجاجية على الحادث الأخير في ظل توتر منذ ثلاثة أيام.
ليس تضخيماً لقضية معان التي ترتبط بولاء قبائلها المعلن والواضح للسعودية، فهي رفعت أكثر من مرة أعلام المملكة الخضراء في مسيرات الاحتجاج التي كانت تهتف ضد الملك عبد الله الثاني. قبل أسبوع، قال رئيس بلدية المحافظة حرفيّاً في مؤتمر حضره الصحافيون إن «المدينة التي أُسس فيها الأردن ستنهي المملكة إذا استمر النهج الحكومي فيها على حاله الذي يعتمد المعالجات الأمنية».
الحكومة قررت الصرف من النفقات الطارئة لتجنيد 3 آلاف دركي
بصورة أخرى، هناك من يريد القول إن معان صارت خزان التكفيريين، ويريد أيضاً تعزيز هذا اﻻنطباع عن المدينة، لكن الواضح أن ما يجري محاولة لجزّ العشب قبل أن ينمو، فلعل ما حقته «داعش» جزئيّاً ضد نظامي دمشق وبغداد ينمي الشعور الداخلي لدى بعض الخلايات النائمة، لذلك وجب التأكد من سلامة الداخل قبل الحدود التي يشدد الجيش على أنه قادر على حمايتها.
تلك القدرة أظهرتها صور الانتشار المكثف للجيش على الحدود، كما رافقت القوات المسلحة مجموعة من الصحافيين لتؤكد الموقف. خلال الجولة، قال قائد حرس الحدود الأردنية، العميد الركن صابر المهايرة، إن هناك حالة ترقب مستمرة «لكننا لن نسمح بأي محاولات لدخول أراضينا من العراق»، وتابع: «طبيعة العمل العسكري تنفذ ضمن خطط قابلة للتطبيق والتحول من حالة إلى حالة بسرعة». في الأمس أيضاً، أعلن مجلس الوزراء موافقته «على صرف مبلغ من مخصصات النفقات الطارئة لتجنيد 3 آلاف شخص في قوات الدرك العام الحالي». يأتي هذا القرار وفق تعبير بيان المجلس «في ظل الظروف الأمنية والسياسية الطارئة التي تمر فيها المنطقة».
المشهد برمته يوحي بأن الدولة قررت محاربة «داعش» في الداخل قبل الخارج. يمكن إلقاء نظرة على أماكن توزع وانتشار الجهاديين الأردنيين في المملكة بناءً على دراسة للباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، مراد الشيشاني الذي اعتمد على تحليل خلفيات 85 سجيناً سلفيّاً في عمان محكومين بقضايا متنوعة منذ بداية التسعينيات. النتائج تظهر أن عمان الشرقية (اسم شعبي يطلق على مناطق عمان الفقيرة) احتلت النسبة الكبرى لوجودهم، وهي 32%، فيما احتلت عمان الغربية (المناطق الغنية) نسبة 27%، أما مدينة الزرقاء (شرق) وهي مدينة أبي مصعب الزرقاوي فكانت نسبة الجهاديين فيها 18%. تتلو ذلك مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بنسبة 16%، وباقي المحافظات 7%.
كذلك يمكن رصد بعض الحوادث الأمنية على وجود «دواعش» في الأردن بغض النظر عن الاعتداءات التي تجري على السلفيين ممن لا يعجبهم مشروع الدولة. الشهر الماضي تعرض ضريح النبي نوح في منطقة الكرك للتخريب وتدمير قبته على أيدي أشخاص مجهولين، ثم اعتداء مجموعة جنوب المملكة على زوار ضريح الصحابي جعفر بن أبي طالب، وذلك بعد خطبة في المسجد الذي يضم الضريح تدعو إلى «تطهير الكرك من دنس الغزو الرافضي»، وهي نفسها الاعتداءات التي جرت في مناطق نفوذ «داعش» في سوريا والعراق.
هذه المنهجية لن تؤسس لبناء دولة حقيقية، يقول المتخصصفي الطوائف الدينية ومقارنة المذاهب، إبراهيم الفيومي لـ«الأخبار». يضيف: «هم يحلمون في إقامة خلافة في العالم العربي مؤقتاً، ثم تمتد لتحكم العالم». ليس الخطر مقتصراً على أن «داعش» أصبحت تسيطر على مساحات شاسعة في دول الجوار، وتتلقى تمويلاً قوياً من دول مجاورة أيضاً، بل إن الخطر الأهم، وفق الفيومي، «وجود حواضن وخلايا نائمة لهذا التنظيم داخل المملكة»، مستدلاً بجملة الحوادث السابقة. ويتوقع الباحث أن يؤدي التهاون الأمني مع أبناء هذه التيارات إلى توسع الحاضنة الشعبية لهم، «فهم خلال احتجاجات معان رفعوا علم تنظيم القاعدة على دوار العقبة في المحافظة، وكانت قد خرجت مسيرات سابقة بعنوان (معان فلوجة الأردن) ليرد زعماء التنظيم في العراق وسوريا برسائل مصورة تعد هؤلاء بدخول الأردن وتحريرها على حد وصفهم».
يشاركه في ذلك الباحث الإسلامي مصطفى أبو رمان المحسوب على الطرق الصوفية، وله تجربة طويلة في مماحكة التيارات السلفية. هو ينبه المسؤولين الحكوميين «من أتباع الفكر المولود من رحم المنهج السلفي الذي أسس له محمد بن عبدالوهاب المرشد الديني لمؤسسي الدولة السعودية». وأضاف لـ«الأخبار»: «هذا المنهج يبني منظومته الفكرية على إلغاء الآخر ورؤية غيره من أتباع المناهج الأخرى، بمن فيهم المسلمون، كفاراً يستحل دمهم وأعراضهم».
عن وقع هذا التحذير، تحدث المحلل السياسي معاذ البطوش الذي عمل في قطاع المساجد وخبر عن قرب الحضور السلفي فيها. البطوش يخالف سابقيه ويرى أن الأجهزة الأمنية تتعامل بحزم وحذر مع هذه الجماعات، مذكراً بالدور البارز للمخابرات الأردنية في تصفية الزرقاوي «فضلاً عن قانون مكافحة الإرهاب الذي عدل أخيراً وزاد التضييق عليهم». يقول لـ«الأخبار»: «الدعم المالي يتدفق لهذه المجموعات أينما وجدت بطريقة غير مباشرة من بعض الدول العربية وبعض الأغنياء الخليجيين المؤمنين بالأطروحة السلفية، وتاريخياً هو بدأ منذ حرب أفغانستان ضد الروس».
لا ينكر البطوش أن هناك تعاطفاً في الشارع الأردني مع السلفيين بدأ مع الحروب الأميركية في المنطقة، مستدركاً: «بعد تفجيرات عمان عام 2005 التي ذهب ضحيتها قتلى وجرحى ضعفت شعبية التيارات السلفية». أما عن مناطق معان ومخيم البقعة ومدينة الزرقاء، فإنه يرى أنها حواضن شعبية للفكر السلفي ومنه «داعش»، وذلك لأسباب «ترتبط بالفقر الذي يعيشه أبناء هذه المناطق، فضلاً عمّا له علاقة بسلوك أعضاء التنظيم المعروف أنهم أصحاب سوابق وجنايات».