أعلن خادع الحرمين الشريفين اليوم عن تقديم مكرمة بمبلغ 500 مليون دولار للشعب العراقي “المظلوم” للتخفيف عنه من المعاناة التي يجتازها في هذه الظروف الصعبة.. وللتوضيح، فالمكرمة لن تسلم للحكومة العراقية وفق الأصول، بل ستوزع مباشرة على الطائفة “السنية الثائرة” في الموصل وصلاح الدين والأنبار، وهو ما جعل مصادر إيرانية تسارع لإتهام السعودية بأنها تسعى من وراء هذه المبادرة الخادعة لتمويل “داعش”، بهدف صب المزيد من الزيت على النار.
والحقيقة أن ما يقوم به النظام السعودي الرجعي من سفك لدماء المسلمين، ومحاولة تسعير الفتن الطائفية والمذهبية في سورية والعراق ولبنان واليمن، وحث الإرهابيين على إستهداف المراقد المقدسة في كربلاء والنجف لتفجير حرب طاحنة بين الشيعة والسنة، لم يعد خافيا على أحد، كما أن لا أحد يصدق اليوم أن السعودية تحارب الإرهاب ولا تدعمه، خصوصا بعد الكم الهائل من التقارير الغربية التي وجهت الإتهام صراحة للحكومة السعودية، وطالبت حكومات الغرب بالضغط عليها لتجفيف منابع الإرهاب الفكرية والمالية، ومعاقبتها على ذلك.
ويؤكد آخر تقرير لـ’فورين بوليسي’ نشرته الصحيفة الأمريكية مرفق بأدلة قطعية لا يرقى إليها الشك، “أن نظام آل سعود يدعم إرهابيي داعش في العراق”.. فأين يذهب خادم واشنطن وإسرائيل بالإرهاب الوهابي من هنا؟..
الصحيفة الأمريكية أكدت ما سبق وذهبنا إليه بالتحليل منذ بداية الأحداث في العراق، فقالت: “ان السعودية الى يومنا هذا لم تفتتح سفارتها في بغداد وبعد ان ادرك عبد الله بن عبد العزيز ان مخططاته التي حاكها لسوريا بغية اسقاط الرئيس بشار الاسد قد باءت بالفشل، وجه البوصلة نحو العراق ليضرب عصفورين بحجر واحد أي ضرب الشيعة في العراق عن طريق هجمة ارهابية وهابية واسعة النطاق، وتوجيه ضربة استراتيجية لايران عن طريق اضعاف حكومة المالكي في بغداد”.
هذا أيضا أصبح واضحا للجميع، ولم يعد يرقى إليه الشك بعد أن أكدته صحف ومراكز دراسات دولية. لكن، هل هذا يعني أن السعودية تتصرف باستقلالية من خارج التغطية السياسية والأمنية بل والعسكرية الأمريكية والإسرائيلية؟
هذا مستحيل، لأن قرار تقسيم العراق لا علاقة له بالفكر الرجعي السعودي، بل بالتخطيط الإستراتيجي الصهيوني والبريطاني تحديدا. وبهذا المعنى، تكون واشنطن هي المايسترو لأوركسترا “إدارة التوحش”، لكن من بعيد، خوفا من تورطها في مستنقع لا تعرف كيف ستنتهي فيه الأمور، لكنها تعرف أنه سيكون مسرحا لحروب أهلية وطائفية ومذهبية ستضرب المنطقة بأسرها وستدوم طويلا.. هذا ما يعتقده صناع الإستراتيجيا في واشنطن.
وميزة الدور الذي تلعبه الإدارة الأمريكية، يمكنها كمتفرج من الحكم على اللاعبين في الميدان، لأنها ترى الصورة في شموليتها، ومن ثم تحديث الخطط التكتيكية لمساعدة أدواتها على تحقيق أهدافهم، فيما تقوم إسرائيل بمدهم بالمعلومات وتكنولوجيا الإتصالات والأسلحة والخطط العسكرية.
كما أن الإعلام الأطلسي يقوم بدور مساند فعال لدعم “داعش” بشكل غير مباشر، حيث أعطى لهذه المنظمة الإرهابية هالة من الدعاية من خلال حديثه عن “وحشيتها”، في الوقت الذي كان فيه خبراء في التحليل النفسي يقولون أن “الجهاد علاج للكئابة”، وهي حيلة أطلسية ذكية لتنظيف المجتمعات الغربية من شواذ المتطرفين المكبوتين عشاق “جهاد النكاح” الذي أصبح يستقطب حتى القاصرات الأوروبيات.
هذا هو السر الذي جعل “داعش” تستقطب آلاف الشباب من أوروبا وأمريكا وغيرها، أما بالنسبة للعالم العربي، فأعدادهم في تزايد مخيف، خصوصا من السعودية واليمن، لكن هذه المرة، وبخلاف شباب أوروبا، ما يستقطب “الجهاديين” العرب هو وهم “الخلافة” لما تمثله في عقيدتهم الفاسدة من قدسية مصطنعة.
لكن، لماذا استعجلت أمريكا ‘أبو بكر البغدادي’ ليعلن دولته الإسلامية ويبايع نفسه خليفة للمسلمين؟..
أدركت أمريكا من تحركات إيران أن ما خططت له من فتنة في العراق سينهار، وأن داعش وأخواتها لن يكون بمقدورهم مواجهة الشعب العراقي وجيشه ومقاومته وأنصاره من الحلفاء.. خصوصا بعد أن خرج المرجع الأعلى السيد ‘السيستاني’ ينادي بوجوب الجهاد دفاعا عن الوطن الجامع لكل مكوناته، وقام السيد مقتضى الصدر بتفعيل جيوشه لتكون ظهيرا للجيش العراقي، وكذلك فعلت حركات مقاومة أخرى عديدة تحت مسميات مختلفة..
فجأة، أعلن السيد ‘المالكي’ أن عدد المجندين بلغ مليونين ونصف المليون مقاتل يشكلون جبهات شعبية لمواجهة إجرام “داعش” وأخواتها.
وبموازات حملة التجنيد في أرض الرافدين التي استقطبت سنة وشيعة، كانت مكاتب في الهند تسجل المتطوعين للقتال في العراق، حيث بلغ عدد الذين سجلوا أسمائهم للدفاع عن المراقد المقدسة في العراق 100 ألف مقاتل.
أما إيران، فليست بحاجة لفتح مكاتب لتجنيد المقاتلين، لأن كل الشعب الإيراني مجاهد، كما وأن المعركة في هذه المرحلة لم تتطور لدرجة تستدعي إعلان النفير لحرب شاملة في المنطقة.. لكن طبيعة المعارك اليوم تغيرت، وأصبحت الجيوش النظامية عاجزة عن مواجهة حروب الكر والفر التي يعتمدها الإرهاب، وقد تكون هذه الحملات مرتبطة بالمعلومات التي لدة إيران حول المخطط الأمريكي – السعودي – الصهيوني. خصوصا وأن إيران اتهمت رسميا أمريكا بالوقوف وراء داعش للضغط على إيران وعزلها عن عمقها الإسلامي وامتدادها الطبيعي في المنطقة من خلال مشروع تحرير فلسطين التاريخية، الذي يفترض أن تنخرط فيه الأمة، لا أن يحاربه الأعراب والعملاء المتآمرون في المنطقة.
هذه الرسائل أقلقت واشنطن والرياض وتل أبيب، خصوصا وأن السعودية لا تستطيع تجيش أكثر من بضعة آلاف من الإرهابيين على فترات، فاقترحت عليهم بريطانيا، الخبيرة في قضايا الشرق والإسلام السياسي، أن تعلن داعش “دولة الخلافة”، ما سيشكل مغناطيسا جذابا للمسلمين “السنة” من كل مكان للدفاع عن خلافتهم الجديدة في أرض الخلافة الأموية والعباسية التي تحولت إلى ملك عضوض وانحرفت عن الحكم الرشيد المتمثل في تطبيق شرع الله، فجاءت “داعش” لتحقق لجهلة الأمة هذا الوهم الذي سيقيم العدل وينهي الظلم.
لأن المخطط الأصلي وفق تسريبات إستخباراتية من السفارة الأمريكية ببغداد، والتي تبين أنها كانت على علم بالهجوم أسبوعا قبل تنفيذه ولم تخبر حكومة المالكي، ما يؤكد تورط إدارة ‘أوباما’ في لعبة الدم والخراب في العراق.. كان يفترض أن تعلن دولة “الخلافة” بعد سقوط بغداد. لهذا سارع كيري لإقناع المالكي بقبول جنود أمريكيين (225) لحماية السفارة وطريق المطار، في حين تقرر مؤخرا إنشاء قاعدة عسكرية صغيرة في أربيل ستزود بـ 300 عنصر من الإستخبارات، والعدد مرشح للزيادة وفق الحاجة. ويعتقد أنه تم التحضير لسيناريو شبيه بالموصل في بغداد، وهذا ما أبلغته الحكومة الإيرانية للعراق، فقام السيد المالكي بتعديلات نوعية في قيادة الجيش والأجهزة الأمنية، فأحبط المؤامرة قبل أن تبدأ. حينها تم التركيز على تفجير المراقد المقدسة لإدخال العراق في حمام دم جديد قد يتسع ليشمل المنطقة برمتها.
أمريكا خسرت اليوم العراق، لأنه بمجرد وصول سرب طائرات ‘ساخوي’ الروسية إلى بغداد، فهمت إدارة ‘أوباما’ أن العراق استدار نحو روسيا بضغط من إيران، وتعهدت روسيا ببعث خبراء إلى العراق لمساعدته في تدريب الطياريين العراقيين ومحاربة الإرهاب، هذا باب جديد واسع للتعاون فتح اليوم بين بغداد وموسكو بالتنسيق التام مع إيران وسورية. كما وأن روسيا سبق وأن أعلنت أنها ستزيد من حضورها العسكري في سورية بعد أن طلب ‘أوباما’ من الكونجرس تمويل المعارضة “المعتدلة” بمبلغ 500 مليون دولار، وذلك 24 ساعة بعد أن أعلن أن “لا وجود لمعارضة معتدلة على الأرض قادرة على إسقاط الأسد”، وبالتالي، فالدعم هنا هو لـ”داعش” التي تنفذ بفعالية – حتى الآن – الإستراتيجية الأمريكية في العراق وسورية.
وبحكم أن الأزمة العراقية تجاوزت الإطار المحلي والنطاق الإقليمي وأصبحت أزمة دولية تشبه الأزمة السورية والأوكرانية بنفس إستراتيجية التخريب التي اعتمدت في ليبيا من قبل الأطلسين كما قال ‘بوتين’ اليوم، وهدد بأنه لن يسمح للحلف الأطلسي بالإقتراب من القرم، وتهديد الأمن الأوروبي..
وخلال هذا الحديث لقيصر روسيا، كان السيد ‘أمير عبد اللهيان’ مساعد وزير الخارجية الإيرانية يتباحث في موسكو مع السيد ‘لافروف’ ومسؤولين آخرين، ليعلن من هناك أنه تم الإتفاق غلى أن تعمل موسكو وإيران معا لمحاربة الإرهاب في العراق. هذا إعلان موجه لأمريكا ينذرها بأن مشروعها سيهزم في العراق كما هزم في سورية ومن قبل في لبنان.
لكن ما كان لافتا هو إعلان السيد ‘أمير عبد اللهيان اليوم، أن مشروع إستقلال الكرد عن العراق وهم لن يتحقق، لأن إيران وروسيا معا متمسكان بوحدة العراق.. كما أن إيران نجحت في شق صفوف الأكراد، حيث خرج اليوم متحدث رسمي باسم حزب الرئيس طالباني ليقول، أن حزبه متمسك بوحدة العراق وضد الإنفصال.. فأين يذهب العميل ‘بارازاني’ من هنا؟..
لا شك أن الأمر مقلق لإسرائيل أكثر من أمريكا، خصوصا وأن ‘نتنياهو’ لم يتمالك نفسه فأيد علنا إنفصال إقليم كردستان، وضغط على ‘كيري’ لتدعم الإدارة ألأمريكية هذا الخيار، لأنه وفق قوله، بغداد قدمت دعوى قضائية ضد حكومة ‘بارازاني’ تتهمها ببيع النفط بطرق غير مشروعة، ما سيورط تركيا وإسرائيل.
المتأمل للمشهد اليوم في الشرق الأوسط، لا يسعه إلا أن يصل إلى خلاصة حاسمة قاطعة ونهائية مؤداها، أن كل ما يقع بالمنطقة لدول ومكونات محجور الممانعة والمقاومة هو لمصلحة إسرائيل، وأن إسرائيل متورطة في الدم العربي في كل مكان، من فلسطين إلى العراق مرورا بلبنان وسورية.
وحيث أن أوجاع هذا السرطان الخبيث لا يمكن معالجتها بمسكنات مكافحة صداع الإرهاب الذي لا يكاد يضعف هنا حتى ينبعث كالعنقاء من الرماد هناك، فالإعتقاد السائد اليوم لدى حلف المقاومة وكل شرفاء الأمة، أن الحل يكمن في إقتلاع هذا الورم الخبيث قبل أن يفسد جسد الأمة بالكامل.
ولعل هذا ما يجعلنا نتوقع حربا جديدة مع إسرائيل، ستغير وجه المنطقة كما كان قد تعهد سماحة السيد ذات خطاب. لأنها الوجيدة القادرة على إعادة خلط الأوراق، وتوجيه الأمة نحو العنوان الصحيح لمعركة الوجود والمصير..
ولفلسطين في قلب الأمة مكانة متميزة تسمو فوق كل الخلافات، أو هكذا نعتقد، ونؤمن أن فلسطين وحدها اليوم هي القادرة على توحيد الأمة، بغض النظر عن ما يحدث للفلسطينيين، لأنهم إذا شعروا أن الأمة أصبحت ظهيرا لهم، فستنتهي سلطة عباس وحماس، وسينطلق جيل جديد من الثوار الذين قال عنهم ياسر عرفات أنهم “شعب العمالقة”.
بانوراما الشرق الاوسط – أحمد الشرقاوي