المتطرفون ليسوا سوى مظهر لمشكلة أوسع مرتبطة بطبيعة الأنظمة العربية الحاكمة وبسياسة الغرب في المنطقة

الإكونوميست – مرّة أخرى، تقود أمريكا حربًا مسلّحة في الأراضي الوعرة ببلاد ما بين النهرين. ففي عام 1991، شكّل جورج بوش الأب ائتلافًا لمطاردة القوات صدام حسين التي قامت بغزو الكويت. وفي عام 2003، غزا بوش الأصغر، العراق، كجزء من حربه العالمية على الإرهاب، بهدف تخليص البلاد من صدام، لكنه تورط في مأزق دموي، واستلزم الأمر التزامًا كبيرًا من القوات الأمريكية وتفكيرًا جديدًا للسيطرة على العنف.

والآن، وبعد أن انتشل القوات الأمريكية من مستنقع العراق عام 2011، أعلن باراك أوباما عن حملة جديدة لحلحلة داعش، وفي النهاية تدمير الجهاديين الذين نشأوا في سوريا ووصلوا إلى أبواب بغداد.

لكن خصوم اليوم المتمثلين في تنظيم داعش، تجاوزوا تنظيم القاعدة سواء من حيث الطموح السياسي أو الوحشية. فقد قاموا بتأسيس “الخلافة” التي طالما حلم بها الزعيم الراحل للقاعدة، أسامة بن لادن، عبر مساحات كبيرة من سوريا والعراق.

المجازر وقطع الرؤوس المسجلة على الفيديو للتوزيع عبر الإنترنت، التي ترتكبها داعش، والاضطهاد الوحشي للأقليات الدينية، وما يشاع عن استعباد النساء والأطفال، يتعارض حتى مع تنظيم القاعدة.

أبو قتادة وهو المنظر الجهادي (الذي يوصف بأنه أكبر رجل لابن لادن في أوروبا) والذي تم تسليمه من بريطانيا إلى الأردن، حيث يحاكم بتهم تتعلق بالإرهاب؛ قال إنّ داعش هي “آلة للقتل والدمار”، وإن مقاتليها هم “كلاب جهنم”.

لكن داعش استطاعت أن تحقق شيئًا نادرًا ما كانَ يمكن تصوره في الشرق الأوسط من خلال توحيد ألد الأعداء على هدف مشترك. فقد نادت كل هذه الجهات المتنوعة مثل الأوروبيين والأكراد والنظام السوري المحاصر جنبًا إلى جنب مع العديد من معارضيه من المتمردين، وتركيا وعدد كبير من الدول العربية، فضلًا عن إسرائيل والحكومة العراقية نفسها بضرورة التدخل الأمريكي. بل حتى إيران، على الرغم كونها غير متحمسة لعودة الأمريكيين إلى المسرح؛ إلا إنها قد قبلت ضمنيًّا، التحالف مؤقتًا مع الشيطان الأكبر.

وفي 10 سبتمبر الماضي، وعد باراك أوباما بقيادة تحالف واسع لدحر هذا التهديد الإرهابي، على حد تعبيره. وأن ذلك سيشمل ضربات جوية لدعم القوات العراقية، وسوريا أيضًا إذا لزم الأمر، لكن تحويل مواءمة سياسية عابرة إلى حملة متماسكة هو أمر ليس بالسهل.

فقد أظهر غزو أفغانستان والعراق كيف يمكن للقوات المسلحة الغربية أن تسجّل انتصارات أولية سريعة، ولكنها تفشل في تأمين نظام سياسي مستقر للحفاظ على الأمن بعد ذلك. وقد يكون الأمر أكثر صعوبة بالنظر إلى أن أوباما لا يزال يصر على أمريكا “لن تتورط في حرب برية أخرى”.

من البعث إلى حمام الدم

قوة داعش، تعكس الانهيار السياسي في معظم أنحاء الشرق الأوسط، من تدمير ديكتاتورية صدام حسين البعثية من قبل الأميركيين إلى تكسير نظام بشار الأسد السوري عقب الثورات العربية المعروفة باسم الربيع العربي. وتعد داعش منتجًا ومحرضًا كبيرًا على تعميق العداء بين السنة والشيعة من البحرين إلى لبنان في وقت واحد.

كما يلعب سوء الحكم دورًا أيضًا. فلم تكن داعش لتصل إلى الرقة في سوريا في الشمال الشرقي، لو لم يمتنع الأسد الذي لا يتورع عن قتل المدنيين في أي مكان آخر خلال محاولته سحق المعارضين الأقل تطرفًا، عن قصف تلك المنطقة.

وكان هدف الأسد هو تقديم نفسه على أنه البديل الوحيد للجهاديين الأشد هولًا. كما لم تكن داعش لتسيطر على مساحات شاسعة من العراق هذا الصيف، بما في ذلك الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، لو لم يتم التهميش المنهجي للسنة من قبل حكومة نوري المالكي الشيعية.

كما إنّ داعش تتصف بأكبر وأفضل تسليح وتمويل وبوحشية أكبر من الجماعات الإرهابية الأخرى. حيث يعتقد البعض بأنها تكسب مليون دولار يوميًّا نتيجة بيع النفط وفدية الرهائن. ووفقًا لتقديرات أجهزة الاستخبارات الأخيرة، يصل مقاتلو داعش الى 30000-45000 مقاتل، يعتقد أن ثلثهم من ذوي المهارات العالية.

كما إنها استطاعت حشد المجندين الأجانب بشكل أسرع من المجموعات المتشددة في النزاعات الأخرى. جاء ذلك جزئيًّا بسبب سهولة الوصول إلى سوريا عبر تركيا. ولا تزال التقديرات مختلفة حول عدد حاملي جوازات السفر الأجنبية الذين انضموا إلى المنظمة، ولكن يعتقد أنه من بين 12000 مقاتل تابع للمنظمة في سورية، فإن منهم حوالي 3.000 من المقاتلين الغربيين.

ويعتقد أن أغلبية هؤلاء ينجذبون لداعش؛ لأنها توفر المزيد من التألق، والمال، ومؤخرًا، النجاح أكثر من الجماعات المتنافسة الأخرى، مثل فرع تنظيم القاعدة الرسمي في سوريا والمعروف باسم “جبهة النصرة”.

نمت داعش من بقايا تنظيم القاعدة في العراق، وعملت على إذكاء لهيب التقسيم الطائفي من خلال تنفيذ تفجيرات انتحارية ضد الشيعة في بغداد. كما قام مقاتلوها بمهاجمة السجون. مثل الهجوم الذي شنوه على سجن أبو غريب سيئ السمعة وسجن آخر في يوليو 2013، وقاموا بإطلاق سراح نحو 500 من قدامى المحاربين من تنظيم القاعدة في العراق، بما في ذلك العديد من القادة السابقين.

كما يرجع الكثير من نجاح داعش إلى الفريق الذي شكّله زعيم الجماعة، أبو بكر البغدادي، والذي ضم عددًا غير قليل من كبار الضباط السابقين في جيش صدام الذين اتجهوا إلى المقاومة العنيفة بعد أن منعوا من الانخراط في الحياة السياسية في إطار السياسات الأمريكية، والحكومات العراقية المتعاقبة بعد ذلك، لاجتثاث رموز حزب البعث.

أرض الحربين

عندما أنشأت داعش قاعدتها في الرقة، أظهرت شهية أكبر لمحاربة الجماعات المتمردة الأخرى بالإضافة إلى نظام الأسد. وبعد استيلائها على الموصل يوم 10 يونيو الماضي، حيث أجبرت الجيش العراقي على التراجع، حصلت داعش على مخزون هائل من الأسلحة الأمريكية الموفرة، مثل العربات المدرعة والمدفعية المضادة للدبابات والصواريخ المضادة للطائرات وأساطيل من سيارات همفي وكمية كبيرة من الذخيرة.

ما تميزت به داعش حتى الآن هو المزيج من الصبر الاستراتيجي، والقدرة على تصميم العمليات العسكرية المعقدة والمباشرة في سوريا والعراق في وقت واحد، وقدرتها على إدارة الحرب الهجينة التي تدمج بين التقنيات الإرهابية والمتمردة وبين القتال التقليدي.

ومن بين التكتيكات التي طورتها داعش هو تليين الأهداف بالمدفعية، أو فتح ثغرة عن طريق التفجيرات الانتحارية، ومن ثم الهجوم بأسراب من طراز همفي المدرعة والمزودة بمدافع مضادة للطائرات القادمة من ما يبدو كل الاتجاهات في آن واحد. وأصبح العدوان والسرعة وقوة النيران والاستعداد لتقديم خسائر، جنبًا إلى جنب مع الوحشية التي حظيت بتغطية إعلامية أمرًا يرهب كلّ من بفكر في مواجهة داعش.

وبينما يترصد تنظيم القاعدة في الظل ويسعى لمهاجمة أمريكا وأوروبا، التي يسمونها “العدوّ البعيد”، فإنّ وكالات الاستخبارات يعتقدون أن عليهم، في الوقت الحاضر، الانشغال بـ “العدو القريب”. والذي يهدد بزعزعة استقرار جزء كبير من منطقة الشرق الاوسط المضطربة.

كما بدأت جماعة بوكو حرام في نيجيريا في محاكاة التكتيك الذي استخدمته داعش من الاستيلاء ومحاولة السيطرة على المناطق: فالنجاح قد يلهم الآخرين.

ومع ضراوة الأيديولوجية، قوة الدعاية، والمهارة التنظيمية، وقدرة داعش على أن تكون بمثابة المغناطيس بالنسبة للأجانب، ولا سيما للشبان المسلمين المتطرفين من أوروبا، يعمق مخاوف الغرب من أن بعض هؤلاء المقاتلين قد يعودون إلى ديارهم للتخطيط لهجمات على أراضيها.

ويعتقد قلة من المحللين بأن قطع رؤوس الصحفيين الأمريكيين، الذي دفع أوباما لإعلان استراتيجيته، كان محاولة لاستدراج الغرب إلى العودة إلى المنطقة. وربما كان ردًّا على الغارات الجوية الأميركية الأولى.

وعلى الرغم من جميع نجاحاتها، إلا أن داعش لديها أيضًا نقاط ضعف كبيرة. فتحالف الجهاديين المتشددين والبعثيين السابقين قد ينكسر تحت الضغط. كما إن داعش مصابة بجنون العظمة حول تحول السكان المحليين ضدها، مما يساعد على شرح الطرد الوحشي للأقليات والسنة المعتدلين من المناطق التي تسيطر عليها.

كما إن اختيارها إنشاء “دولة” يجعل المنظمة الآن مضطرة للدفاع عن أرض تمتد حوالي 460 ميلًا، من بغداد إلى حلب.

وعندما ستبدأ القوات في الهجوم، فسيصبح عليها أن تسير على طول الطرق المفتوحة بشكل رئيس من خلال التضاريس المسطحة والتي توفر غطاءً ضعيفًا أمام الهجمات الجوية.

الضربات الجوية المحدودة التي شنتها أمريكا حتى الآن (حوالي 150 حتى الآن) قد استطاعت توصيل الإغاثة الإنسانية إلى الأقلية اليزيدية، وساعدت مقاتلي البشمركة الكردية في مواجهة داعش قرب كركوك، والعمل مع قوات الأمن العراقية، والحفاظ على سدي الموصل وحديثة في يد الحكومة.

ومع الدعم الأمريكي، استطاعت القوات العراقية والميليشيات الشيعية رفع الحصار عن بلدة قرية أمرلي التي يقطنها التركمان الشيعة. وربما تستطيع حملة جوية أوسع أن تدمر العديد من العربات المدرعة والأسلحة الثقيلة التي تمتلكها المجموعة الإرهابية.

دعم الأرض للجو

على الرغم من أن القوة الجوية قد تحتوي داعش، إلا أن القوات البرية لازمة لدفع المقاتلين للخروج من المدن السنية التي استولوا عليها وإبعادهم. ولكن من هي تلك القوات؟ فالبيشمركة تتمتع بسمعة أنها من المقاتلين الشجعان، ولكنها احتاجت إلى الضربات الجوية الأمريكية لمنع سقوط عاصمتهم الإقليمية، أربيل.

كما يجري حاليًا تسليح الأكراد على عجل من قبل الدول الغربية، ولكن من غير المرجح أن يتقدموا أبعد من منطقتهم شبه المستقلة. بينما تعدّ الميليشيات الشيعية أشد خطرًا من داعش. حتى إن مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي المتشدد، كان قد انتقد هذا الاسبوع الفظائع التي قام بها المقاتلون الشيعة الموالون له ظاهريًّا، وقيل إنهم قد قتلوا أشخاصًا من السنّة، وقاموا بقطع رؤوسهم وإحراق منازلهم خلال القتال على قرية أمرلي.

كما سيحتاج القضاء على داعش قبل كل شيء، تعاون العشائر السنية الساخطة في العراق، والذين يعتبرون المجموعة إما حامية لهم أو حليفًا مناسبًا لهم على أقل تقدير، ضد الحكومة الشيعية والميليشيات الشيعية التي لا تعد ولا تحصى.

ورغم أن كلًّا من أمريكا وإيران، قد دفعتا باتجاه استبدال السيد المالكي بحيدر العبادي، الذي فاز بالدعم البرلماني لتشكيل حكومة جديدة، إلا أن الأمر سيتطلب أكثر بكثير من تقديم وجوه جديدة لتبديد الشكوك السنية. فالعبادي في نهاية المطاف، ينتمي إلى حزب الدعوة نفسه.

كما سيكون من الصعب إعادة من أطلق عليه خلال الحرب الأمريكية ضد تنظيم القاعدة بالعراق “الصحوة”. فليس هناك وجود أمريكي كبير على الأرض (قد يكون هناك بعض القوات الخاصة) بحيث يمكنه أن يقدم الحماية الكافية.

ما يجب فعله حيال الأسد

كما يجب أن تشمل أي استراتيجية ضد داعش، عاجلًا أو آجلًا، القضاء على معقل الجماعة في شرق سوريا. ولكن هنا تصبح خطة أوباما هي الأضعف. ففي العراق، كان قد وضع الخطوط العريضة لحملته عن طريق الجمع بين القوات البرية العراقية والقوة الجوية الأمريكية.

أما في سوريا، فإن أوباما يتحدث أساسًا عن عملية مكافحة الإرهاب، التي تنطوي على ضربات جوية من النوع الذي تنفذه أمريكا في اليمن والصومال ضد أهداف رفيعة المستوى مثل تلك التي قتلت زعيم ميليشيا الشباب الصومالية في وقت سابق من هذا الشهر.

وربما تعكس السياستان التي يتبناهما أوباما في كل من العراق وسوريا الواقع. ففي العراق، هناك حكومة من نوع ما، يمكنها طلب الدعم الخارجي. أما في سوريا، فنظام الأسد مكروه مثل داعش. كما إنّ امريكا تعرف، علاوة على ذلك، أنّ روسيا قد تمنع أيضًا أي تفويض من الأمم المتحدة لعمل عسكري في سوريا، كما فعلت في الماضي.

كان المتمردون السنة الأقل تطرُّفًا قد استطاعوا إجبار داعش على التراجع من المحافظات الشمالية الغربية في إدلب وحلب في وقت مبكر من هذا العام، ولكنهم وجدوا أنفسهم محصورين في كماشة بين داعش والقوات الموالية للأسد. ولم يعط ِأوباما أي تلميح حول الكيفية التي ينوي بها متابعة “الحل السياسي” لإنهاء الحرب الأهلية في سوريا، التي شردت ما يقرب من نصف السكان، وقتلت ما لا يقل عن 110000 من المدنيين.