السعودية / البحرين اليوم – التقرير التالي ترجمة كاملة لمادة منشورة في صحيفة “نيويورك تايمز”، بعنوان “تدمير مكة” للكاتب ضياء الدين سردار، نٌشر بتاريخ 30 سبتمبر 2014.
عندما زار مالكوم إكس مكة المكرمة في عام 1964، كان مسحورا بأنه هناك. وجد المدينة قديمةً في ذلك الوقت، ولكنه كتب بأن التمديد الذي يُشيّد جزئياً باتجاه المسجد الحرام سيتجاوز الجمال المعماري لتاج محل في الهند.
خمسون عاماً، ولا يمكن لأحد ربما أن يصف جمال مكة القديم. الحجاج الذي يؤدون مناسك الحج هذا الأسبوع سيبحثون عبثاً عن تاريخ مكة المكرمة.
الموقع المعماري السائد في المدينة ليس هو المسجد الحرام، حيث الكعبة الشريفة، والتركيز الرمزي للمسلمين في كلّ مكان هو فندق مكة الملكي، برج الساعة، والذي يعلو 1.972 قدم، وهو من بين أطول المباني في العالم. بل هو جزء من تطوّر ناطحات السحاب العملاقة التي تضم مراكز التسوق الفاخرة، والفنادق، والمطاعم التي يرتادها فاحشو الثراء.
الجبال القديمة دُكّت. ويُحيط بالمدينة هياكل الصّلب والخرسانة المستطيلة. إن مكة باتت مزيجاً من ديزني لاند ولاس فيغاس.
إنّ الأوصياء على المدينة المقدسة، من حكام آل سعود ورجال الدين، لدهم كراهية عميقة للتاريخ. إنهم يريدون كلّ شيء أن يبدو وكأنه علامة تجارية جديدة. وفي الوقت نفسه، المواقع بدأت تتوسع لكي تستوعب الأعداد المتزايدة من الحجاج، وتصل إلى ما يقرب من 3 ملايين اليوم. بالمقارنة مع الستينات، حيث كان عدد الحجاج 200 ألف فقط.
تدمير مكة
بدأت المرحلة الأولى من تدمير مكة المكرمة في منتصف السبعينات. المباني القديمة كانت لا تُحصى، بما في ذلك مسجد بلال، الذي يعود تاريخه إلى عهد النبي الكريم محمد، حيث تم تجريفه.
البيوت العثمانية القديمة، بما فيها من شبابيك النوافذ الأنيقة، والأبواب المنحوتة بشكل متقن. حيث تم استبدالها ببيوت أخرى حديثة بشعة. في غضون بضع سنوات، تحوّلت مكة المكرمة إلى مدينة حديثة، مع الطرق الواسعة، وتقاطعات “السباغتي”، والفنادق الفخمة ومراكز التسوق.
قام آل سعود بمسح بعض المباني والمواقع ذات الأهمية الدينية والثقافية، والتي بقيت إلى حدود الفترات الأخيرة. تم بناء برج الساعة الملكية في مكة في العام 2012م؛ على قبور تُقدَّر بنحو 400 من المواقع ذات الأهمية الثقافية والتاريخية، بما في ذلك المباني القليلة المتبقية من الألفية الأولى في المدينة.
كانت الجرافات تصل في منتصف الليل، وشُرّدت الأُسر التي عاشت هناك منذ قرون. المجمع يقف على قمة قلعة أجياد، والتي بُنيت في عام 1780 حول مكة المكرمة لحمايتها من اللصوص والغزاة. بيت السيدة خديجة، الزوجة الأولى للرسول الكريم، تحوّل إلى كتلة من المراحيض. بُني على بيت الخليفة أبي بكر فندق مكة هلتون.
وعدا عن الكعبة المشرفة نفسها، فإن النواة الداخلية من المسجد الحرام لا تزال تحتفظ بجزء من التاريخ، حيث تتكون من أعمدة رخامية منحوتة بشكل معقد، ومزّينة مع الخط بأسماء صحابة الرسول الكريم. وقد بناها سلسلة من السلاطين العثمانيين في القرن السادس عشر، ولكنه هناك خطط جارية على قدم وساق من أجل هدمها، جنباً إلى جنب مع كل المناطق الداخلية من المسجد الحرام، واستبدالها بأشكال عصرية.
المبنى الوحيد ذو الأهمية الدينية في المدينة هو المنزل الذي عاش فيه الرسول الكريم. وخلال العهد السعودي، كان يُستخدم لأول مرة كسوق للماشية، ثم تحوّل إلى مكتبة، ولكنها ليست مفتوحة للجميع. ولكن هناك أعداد كبيرة من رجال الدين السعوديين المتشددين الذين دعوا مراراً لهدمه. حيث يخشى هؤلاء من أن يتوجه الناس إلى النبي وليس إلى الله تعالى لكي يغفر خطاياهم. إنها ليست سوى مسألة وقت قبل أن يتم هدمه، ليتحوّل على الأرجح إلى موقف للسيارات.
إن الخراب الثقافي لمكة المكرمة غيّرت المدينة تغييرا جذريا. وعلى عكس بغداد ودمشق والقاهرة، كانت مكة مركزا دائما للفكر والثقافة في الإسلام. إلا أنها كانت دائماً مدينة للتعددية، حيث كان النقاش والحوار يدور بين المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية المختلفة، وبشكل عادي وعلني.
اليوم، انتهى ذلك، وتم تحويل مكة إلى كيان ديني من بيئة دينية واحدة فقط، حيث يُعتمد على السلفية الوهابية باعتبارها تمثل التفسير الحرفي للإسلام، فيما يُنظر إلى كل المذاهب الأخرى باعتبارها خارج الإسلام السعودي.
وكثيرا ما يُهدّد المتعصبون الحجاج الذين ينتمون إلى المذاهب الأخرى. في العام الماضي، تم استهداف مجموعة من الزوار الشيعة من ميشيغان وتم الاعتداء عليهم بالسكاكين من قبل رجال الدين المتطرفين، وفي أغسطس الماضي أرسل تحالف من الجماعات الإسلامية إلى وزارة الخارجية الأمريكية طلباً لحمايتهم أثناء أداء مناسك الحج هذا العام.
وقد كان لمحو تاريخ مكة تأثير هائل على الحج نفسه. فكلمة “الحج” تعني الجهد، ومن خلال هذا الجهد الناتج من السفر إلى مكة، والمشي من موقع لآخر، وعبر طقوس مختلفة، والتعامل مع أشخاص من ثقافات وطوائف مختلفة، والتوغل في تاريخ الإسلام، من خلال كل ذلك فإن الحجاج يكسبون المعرفة، ويعبّرون عن الوفاء الروحي للإسلام.
أما اليوم، فإن الحج مجرد جولة حازمة، ويمكنك التحرك في إطار مجموعتك الخاصة، من فندق لآخر، ونادراً ما تصادف أناساً من ثقافات وأعراق مختلفة. لقد تم استنزاف تاريخ التعددية الدينية والثقافية، وفقد الحج بُعده الحقيقي باعتباره تجربة روحية، وتحوّل إلى ممارسة عادية من الطقوس والتسوّق.
إن مكة المكرمة هي صورة مصغّرة عن العالم الإسلامي. وما يحدث في هذه المدينة لها تأثير عميق على المسلمين، وفي كلّ مكان. لقد تمّ قلب الأبعاد الروحية للإسلام. لم يعد هناك أي تسامح مع الاختلاف، وما عاد للتاريخ أي معنى، وأضحى الاستهلاك هو الهدف الأسمى. وبعد ذلك، لم يعد من المستغرب أن تكون الحرْفيّة، والتفسيرات القاتلة للإسلام هي السائدة اليوم في بلاد المسلمين.