تجد السياسة الخارجية السعودية نفسها في مأزق قد يؤدي الى انهيار قادم، حيث انها تلقت خلال الاشهر والاسابيع السابقة ضربات قاصمة من المجتمع الدولي قد يصعب عليها ان تتجاوز تبعاتها وتداعياتها.
د. مضاوي الرشيد / جريدة القدس العربي
ويكمن الفشل في عدم قدرة النظام السعودي على قراءة الوضع العربي الذي بدأت ملامحه تتضح منذ اندلاع الثورات العربية وتعاملت السعودية مع هذا الواقع الجديد من منطق محاربة التغيير فعادت جميع القوى الشعبية الطامحة للتغيير وانخرطت في مشاريع اعادة الوضع القديم ولو بوجوه جديدة، وارتبط اسمها بمصطلح الثورات المضادة بينما رحب العالم بهذا التغيير عله ينتشل المنطقة من عقود طويلة عانت فيها الشعوب من الاستبداد والظلم وتردي مؤشرات حقوق الانسان وانهيار تام للاقتصاد.
فضخت السعودية الاموال لاعادة صياغة الربيع العربي بطريقة تعيد الاحلاف القديمة وتسترجع الولاءات بين الدول دون اي اعتبار لمرحلة جديدة اختطفت فيها الشعوب المبادرة واعادت تشكيل ذاتها كقوة فاعلة في صياغة مستقبلها.فتعارضت السياسة الخارجية السعودية بل تصادمت مع هذه المعطيات الجديدة وكرست موقع السعودية كنظام أدار ظهره للتغيير بل وقف في وجهه بقوة المال.
وجاءت الضربة الاخيرة لهذه السياسة من المجتمع الدولي والفاعلين في المنطقة حيث فشلت السعودية في الضغط على هذا المجتمع لتفعيل رؤيتها التي تمثلت بجر القوى الغربية لصراع عسكري في سورية مؤخرا وقبل ذلك توجيه ضربة لايران او على الاقل ضمانة استمرار العداء والتشنج بين ايران والغرب، وهنا وجدت السعودية نفسها وحيدة الا من امكانية التقارب مع اسرائيل والتي هي ايضا كانت تطمح لمثل هذه النتيجة. وبالاضافة الى فشل السعودية في قراءة الوضع العربي المتغير فهي ايضا فشلت في تقييم الوضع الغربي حيث رفضت برلمانات في بريطانيا والولايات المتحدة التسرع في الانخراط العسكري خاصة بعد تجارب طويلة باهظة الثمن وغير مكللة بالنجاح في افغانستان والعراق وفقدت شهيتها للانجرار خلف مغامرات عسكرية جديدة رغم ان مثل هذه المغامرات قد تطمئن حليفات عربية كالسعودية.
وبدل ان تنزلق الدول الغربية المهمة في عسكرة صراعات منطقة الشرق الاوسط نجدها جنحت الى المفاوضات وهي اقلكلفة من الصراع المفتوح والذي قد تحدد اجندته بدقة لكن ساحته وتداعياته تبقى مجهولة وبلا شك قد تكون هذه التداعيات سلبية على السعودية ذاتها.وحتى في المحيط الخليجي نجد ان معظم الدول قد رحبت بالاتفاقية الامريكية ـ الايرانية بل ان احدى الدول الخليجية لعبت دورا مهما خلف الكواليس كسلطنة عمان التي جنحت للسلم وعدم المواجهة المباشرة مع ايران مفضلة الحوار على التشنج والدبلوماسية على المواجهة العسكرية المباشرة. وتنظر السعودية اليوم بشيء من الريبة والحذر لتسارع الحوارات التي ادت الى اعادة ايران كقوة معترف بها في المحافل الدولية لم تعد تستطيع الدول الغربية تجاهلها.
وبعد ان رفضت السعودية ان تكون جزءا من الحل للصراع الاقليمي في المنطقة نجد ان الدول الغربية تجاوزتها وتجاوزت رغباتها وغيرت مسارها بسرعة فائقة مما جعل السعودية تقف متفرجة على دبلوماسية كانت قد رفضتها منذ البداية بل فضلت الحلول العسكرية عليها. واعتقدت السعودية ان الادارة الامريكية تبقى مستعدة لتخوض الحروب السعودية بالوكالة تحت ضغط الحاجة الى النفط والعقود العسكرية لكن الواقع اثبت عكس ذلك وان كانت الولايات المتحدة قد فعلت ذلك في الماضي الا ان سياستها الحالية اختلفت كليا عن تلك التي طبقتها خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم. فالسياسات الخارجية تتغير وتنقلب حسب المصالح القومية لكل دولة، بينما ظلت السعودية مصرة على الحلول العسكرية ولم تتفهم معنى التغير داخليا او خارجيا مما ادى الى جمود وعدم مرونة في التعاطي مع المعطيات على الارض.
وربما يعود هذا الجمود الى استمرارية السياسة الخارجية التي تظل مرهونة بأشخاص قدامى، وبينما يغير العالم وجوه السياسيين الذين قد يأتون باستراتيجيات جديدة واساليب مبتكرة نجد السعودية منذ عقود طويلة لم تغير طاقم سياستها الخارجية التي ضربها الجمود.
فالخبرة القديمة والحنكة السياسية المكتسبة اصطدمت بتغيرات عربية واقليمية بل عالمية ادت الى هذا المأزق السعودي والخيبة التي ضربت النظام على خلفية الاتفاقات الجديدة بين الغرب من جهة وايران من جهة اخرى.
تحتاج السعودية اليوم الى طاقم سياسي ديناميكي يخرجها من العزلة العالمية التي فرضتها التغيرات الدبلوماسية الخارجية والمواقف العالمية وادت بها الى الاصطفاف مع اسرائيل والتي قد تؤدي الى عواقب وخيمة تصل تداعياتها الى العمق السعودي نفسه.
من السهل ان ترتفع شعارات المواجهة لكن من الصعب الانخراط في مشروع عسكري خاصة ان لم تكن الانظمة قادرة على تقييم تداعيات مثل هذه المواجهة او غير مهيأة لخوض معركة مجهولة النتائج. وربما تكون النكسة التي ضربت السياسة الخارجية السعودية صفارة إنذار حقيقية تدفع القيادة السعودية لاعادة التفكير في وضعها الداخلي وتمكين الجهة الداخلية اولا بتغيير سياسي حقيقي قبل ان تنخرط في مغامرات خارجية تعكس تضخم الأنا على حساب نظرة موضوعية وواقعية للممكن والمستحيل. وعلى القيادة السعودية ان تبدأ اولا بترتيب البيت الداخلي قبل المغامرات الخارجية. وهناك سلسلة من الاستحقاقات المؤجلة والملفات الغائبة داخليا تنتظر الحلول، منها الاصلاح السياسي المعلق او بالاصح الذي لم يبدأ بعد والذي تم تأجيله تحت ذريعة الفتن والاستهداف من الخارج ولم يعد للنظام السعودي حجة لتأجيله وخاصة بعد الانفراج الحالي الذي احتوى مقولة الاستهداف المباشر من قبل القوة الاقليمية على شاطئ الخليج الآخر.
فايران اليوم تعيش نشوة النصر واعادتها الى الساحة الدولية وهي غير مستعدة لمواجهة تقوض هذا النصر الذي انتظرته لاكثر من ثلاثة عقود وانهكت اقتصادها وحجرت على نفطها تحت ضغط سلسلة من العقوبات.
وبدون فتح ملف الاصلاح الداخلي لن تستطيع السعودية اعادة صياغة ذاتها كقوة اقليمية لها ثقلها السياسي والاقتصادي وستظل رهينة مواقف قديمة ووجوه غير متجددة أدت الى المأزق الحالي. فأخبار السعودية اليوم لا تتجاوز التندر في الصحف العالمية حيث يتسلى الرأي العالمي بملفات إعتقال الناشطين وقضايا قيادة السيارة والفتاوى الغريبة على حساب أخبار التقدم والتطور ناهيك عن ثغرات التنمية التي لم تصمد امام التغيرات المناخية والامطار الغزيرة حيث تحولت هذه الاخبار الى محاولة للهروب من الملفات المستحقة خاصة السياسية.
وبعد ترتيب البيت السعودي الداخلي تستطيع السعودية ان تواجه العالم بسياسة خارجية تعكس الارادة الشعبية ورغبتها ان تحتل موقعها الذي تستحقه في المحافل الدولية كدولة عصرية تمثل شعبها الذي يبقى حتى هذه اللحظة معزولا تماما عن صناعة الرأي بل مهمشا بكل ما تعني هذه الكلمة. من اول هذه الاستحقاقات الداخلية الترتيب لنقلة نوعية تعطي هذا الشعب حق التمثيل السياسي وتقنين هيمنة الاسرة الحاكمة على مفاصل صنع القرار، فالتغيير السياسي الحقيقي لا يعني عزل هذا الامير وتعيين آخر بل يعني حكومات تمثل شعوبها وتتعاطى مع احتياجاتها كأولوية ملحّة بدل ان تكون الاحتياجات هبة ملكية تنتظرها الشعوب.
فالامم اليوم لا تنتصر فقط بامكانياتها الاقتصادية او معسكراتها بل هي تحتاج الى تلك الفسحة التي تمكنها من تفعيل ارادتها ومصالحها على حساب المصالح الضيقة للنخب الحاكمة وأهوائها. وهذا يحتاج الى هزة فكرية تجعل التغيير صاحب قيمة ايجابية وليس سلبية ضرورية مهمة بدل ان يكون ملفا هامشيا يستحضر كجزء من تلميع الصورة وتسويقها داخليا وخارجيا.
فالسياسة الخارجية ذاتها هي صورة تعكس التخبط الداخلي والمأزق السعودي الحالي ما هو الا الرمز لهذا التخبط ونتيجة حتمية لجمود السياسة الداخلية السعودية منذ اكثر من عقد. وتظل نهضة الامم الخارجية مبنية على الواقع الداخلي فكلما تقوقع هذا الواقع تنعكس سلبياته على سياسة الدولة الخارجية ولا يمكن فصل الخارجي عن الداخلي مهما حاولت القيادة ان تعزل الاثنين.
ومن اجل ان لا يتحول المأزق الحالي الى انهيار تام، على السعودية ان تعجل في اعادة النظر بملفاتها الداخلية التي تمكنها من تجاوز هذه النكسة الحالية التي لا يمكن ان تتلاشى بدون تقوية الجبهة الداخلية بسلسلة من الاصلاح الحقيقي السياسي.
موقع “نبأ” لا يتحمّل مسؤولية ما ورد في هذا المقال، إنما هو يلزم صاحبه.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.