السعودية / هافنغتون بوست – هناك رجل واحد ستشكل تبرئة حسني مبارك بالنسبة له انفراجاً مرحباً به: إنه صديقه وزميله في الاستبداد الملك «عبد الله». لقد بلغ القلق بالعاهل السعودي على صديقه مبارك إلى المستوى الذي جعله شخصياً يحث العسكر في مصر على لعب دور أكثر فعالية لصالح الدكتاتور السابق.
لقد أومأ عبد الله عدة مرات بأن المساعدات المالية التي تقدمها المملكة لمصر ستتوقف على إطلاق سراح مبارك. في أغسطس الماضي، بعد الانقلاب مباشرة، بذل الملك عبد الله جهوداً مكثفة لصالح مبارك في وقت كانت المملكة العربية السعودية تلوح بمساعدة اقتصادية قدرها ١٠ مليار دولار. حينها نقل مبارك من زنزانته في السجن إلى المستشفى. ثم جرى مؤخراً الإشارة إلى أن إطلاق سراح مبارك سيمهد الطريق أمام انعقاد مؤتمر دولي للدول المانحة كان الملك عبدالله اول من دعا إليه.
تعود العلاقة الحميمة بين الرجلين إلى الأيام التي كان فيها عبد الله ولياً للعهد. وكان مبارك قد لعب دوراً في غاية الأهمية في حرب الخليج الأولى حينما ترددت جامعة الدول العربية في دعم حملة دولية لغزو الكويت. حينها لم يكتف الرئيس المصري بتحويل توجه الرأي العام العربي بل ساهم أيضاً بقوات قوامها ٣٣٥٠٠ جندي، كانت رابع أكبر مساهمة في التحالف الدولي.
على نسق مبارك، قدم عبد الله نفسه على أنه مصلح، وكان بالفعل قد وصل إلى السلطة محاطا بآمال كبار. فالمملكة التي ورثها كانت أكبر مصدر للنفط في العالم، وحاضنة أهم المعالم الإسلامية وأكثرها قدسية على الإطلاق ، ومركز العالم العربي من حيث الموقع الجغرافي. وكانت لها علاقات طيبة بمعظم جيرانها العرب. واغتنم عبد الله الفرصة ليكون قائماً بذاته مستقلاً بقراراته. ومن ذلك أنه في عام ٢٠٠١ (وأثناء ولايته للعهد وان كان الملك الفعلي حينها) رفض دعوة لزيارة واشنطن احتجاجاً على دعم الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل أثناء الانتفاضة الثانية.
قارن ذلك بحال المملكة التي قد يخلفها الملك الهرم وراءه في القريب العاجل. ماذا سيكون شكل تركته؟
يكاد سجل عبد الله كمصلح يكون مزيجاً من أمور متضاربة. لقد استفاد ما يزيد عن ٧٠ ألف طالب من منح قدمها لهم للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا وفي أستراليا. إضافة إلى ذلك تشكل النساء خمس عدد أعضاء مجلس الشورى تقريباً. إلا أن النساء مايزلن محظور عليهن السفر أو حتى الذهاب إلى المستشفى دون إذن من أولياء أمورهن الذكور. لا يتوقع من رجل فرض الإقامة الجبرية على أربع من بناته وحبسهن وحظر عليهن التحرك بحرية لثلاثة عشر عاماً أن يحدث تغيرات راديكالية في هذا المجال.
في مجال حقوق الإنسان بشكل عام، تظل المملكة واحدة من أكثر البلدان قمعاً في العالم.فالحركات السياسية ومنظمات حقوق الإنسان محظورة، والاعتقالات التعسفية وسوء المعاملة أثناء التوقيف والاحتجاز أمر شائع، والأطفال عرضة للمحاكمة على جرائم يعاقب عليها بالإعدام لمجرد أنهم بدت عليهم علامات البلوغ.وحينما تنفد من جعبة المسؤولين التهم التي على أساسها يحاكمون النشطاء من أمثال محمد صالح البجادي، أحد مؤسسي جمعية الحقوق المدنية والسياسية السعودية، فإنهم ببساطة يعيدون الكرة ويحاكمونهم بنفس التهم تارة أخرى. في قضية البجادي، تشتمل تهمة التآمر الإجرامي على "المشاركة في تأسيس وتمويل منظمة غير مرخصة، والإضرار بصورة الدولة عبر وسائل الإعلام، ودعوة عائلات المعتقلين السياسيين إلى الاحتجاج والاعتصام، وتحدي استقلالية القضاء ووجود كتب ممنوعة في حوزته.”
هناك على المستوى المحلي مظاهر سخط لا تخفى على المتأمل، فسبعون بالمائة من الناس في هذا البلد الذي هو واحد من أغنى البلدان في العالم لا يملكون البيوت التي يعيشون فيها، والرواتب منخفضة لدرجة أن حملات على الإنترنت بشعار "الراتب لا يكفي" انتشرت بين الناس كانتشار النار في الهشيم خلال العامين الماضيين. أما البنية التحتية فهي في حالة يرثى لها، ولا أدل على ذلك من المعاناة التي يتكبدها أهل جدة كلما تعرضت المدينة للفيضان. والخلاصة هي أن ثروة المملكة لا تصل إلى عامة الناس.
ورغم كل ما ذكر آنفاً، فإن السياسة الخارجية هي المجال الذي تراجعت فيه المملكة في عهد عبد الله بشكل لا يخفى على أحد. حينما جاء عبد الله إلى الحكم ورث حالة كانت المملكة فيها تنعم بالنفوذ شمالاً وجنوباً، وكانت إيران، الخصم التاريخي في الإقليم، حينها محتواة ومحجمة. بل كانت لعبد الله علاقات طيبة حتى بسوريا، إذ ارتبط بعائلة الأسد الحاكمة من خلال المصاهرة. إحدى زوجات عبد الله السابقات (اللواتي يقدر عددهن ما بين ٢٧ و ٧٠ امرأة) تكون أخت زوجة رفعت الأسد، عم بشار. وحينما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية كانت مدينة الطائف السعودية هي التي شهدت إبرام الاتفاقية بين الأحزاب المتقاتلة. وحينما سعت كل من حماس وفتح إلى المصالحة، كانت أولى تجاربهما في مكة المكرمة. وماتزال مبادرة السلام العربية التي ينسب الفضل فيها إلى الملك عبد الله على الرف من الناحية الفنية على الأقل رغم رفض الإسرائيليين لها. وكنت إذا ما حصلت لك مشكلة في العالم العربي تتوجه نحو السعوديين ليتوسطوا في حلها. لقد كان لهم أصدقاء في كل ناحية. قارن ذلك الوضع بما آلت إليه الأمور اليوم. ثلاث عواصم عربية على الأقل سقطت في أيدي الإيرانيين على مرأى ومسمع من الملك عبد الله، وهي: بغداد وبيروت ودمشق.
خسر عبد الله العراق لصالح الإيرانيين حينما دعم الغزو في عام ٢٠٠٣. وخسر نفوذه في لبنان أثناء حرب عام ٢٠٠٦ بين إسرائيل وحزب الله. رفيق الحريري، رئيس الوزراء الذي اغتيل، وابنه سعد كلاهما يحملان جوازات سفر سعودية. وها هو الآن يخسر نفوذه في حديقته الخلفية، اليمن، حينما تمخض مخطط إماراتي لسحق جماعة الإصلاح الإسلامية عن نتائج عكسية مذهلة، فاتحاً الباب على مصراعيه أمام مليشيا الحوثي المدعومة إيرانياً ولتصبح صنعاء العاصمة العربية الرابعة التي يخسرها عبد الله.
بكل بساطة لقد خاض عبد الله الحروب الخطأ مع الحلفاء الخطأ، وخلف فراغاً بعد كل واحدة منها شكل دعوة مفتوحة لأعداء المملكة الحقيقيين ليدخلوا إلى المنطقة. أما الخطأ الأكبر والتقدير الأسوأ والحسبة الأخسر فكان رد فعل عبد الله على الربيع العربي في عام ٢٠١١، والذي تعامل معه آل سعود كما لو كان موجهاً ضدهم شخصياً. لقد هزت أركان كيانهم احتجاجات الثمانية عشر يوماً في ميدان التحرير لأنهم ظنوا أن الدور سيأتي عليهم من بعد. ولذلك اعتبر عبد الله الإسلام السياسي خطراً يتهدد وجوده، وقطع على نفسه عهداً بأن يحاربه أينما تمكن من الوصول إليه.
لقد كانت تكلفة شن هذه الحملة باهظة جداً، فقد خسر عبد الله تركيا، اللاعب المهم الآخر في استراتيجية احتواء إيران. وافتعل مشاجرة مع قطر، التي هددها في لحظة من اللحظات بفرص حصار بري وبحري عليها، الأمر الذي كاد يدمر مجلس التعاون الخليجي، الأداة الأساسية لبسط النفوذ السعودي. ومن خلال سعيه لتدمير الإسلام السياسي تسبب عبد الله في نشأة عدو حقيقي يتمثل في الإسلام التكفيري المقاتل أو ما يسمى بالدولة الإسلامية.
لا يقتصر الأمر على مجرد الدعاية الإعلامية. لقد وجه زعيم داعش أبو بكر البغدادي كلامه إلى ما سماه "زعيم المنافقين" حينما هدد الملك في آخر خطاب له قائلاً: “لن يكون هناك أمن ولن تكون هناك راحة لآل سلول. أشهروا سيوفكم.” وها هي رايات داعش السوداء ترفرف على مقربة من الحدود الشمالية للملكية العربية السعودية في العراق وعلى مقربة من حدودها الجنوبية في اليمن وعلى مقربة من حدودها الغربية في شبه جزيرة سيناء. كما أن الشيعة المضطهدين في شرق البلاد القابل للاشتعال في أي وقت يشكلون قوة لا يستهان بها، وقد أعرب هؤلاء مؤخراً عن سخطهم بصخب واضح حينما صدر حكم بإدانة الشيخ نمر باقر النمر بتهمة إثارة الفتنة، وهو الذي كان قد تزعم الاحتجاجات في القطيف في أوج الربيع العربي عام ٢٠١١.
وأخيراً وليس آخراً، لقد تسبب عبد الله في شق عائلته من خلال ترتيب رديء لمسألة التعاقب على ولاية العهد. والآن، يشكو ولي العهد الأمير سلمان من سوء حالته الصحية ويعتقد بأنه مصاب بداء ألزايمر أو يعاني من شكل من أشكال الخرف. لقد حاول عبد الله حسم التعاقب على ولاية العهد من خلال مرسوم "غير قابل للنقض أو التبديل" قضى بإيجاد منصب نائب لولي العهد يشغله الأمير مقرن بن عبد العزيز الذي يبلغ من العمر ٦٩ عاماً وأصغر أولاد الملك عبد العزيز سناً ومايزال حياً يرزق.إلا أن مقرن أيضاً لا يزيد عن كونه مرحلة انتقالية.
فيما عدا ذلك هناك ثلاثة أشخاص ينحصر بينهم التنافس على العرش، أولهم هو الأمير متعب نجل الملك عبد الله، ثم هناك محمد بن نايف، وزير الداخلية، وهناك أحمد بن عبد العزيز أصغر الأشقاء السديريين الذي ما يزال حياً يرزق. للمرة الأولى منذ عقود تسود حالة حقيقية من عدم الوضوح إزاء من سيكون الزعيم السعودي القادم. أضف ذلك إلى كل ما سبق، وستجد نفسك أمام تركة من نوع فريد.
المملكة العربية السعودية، التي فشلت في فتح نظامها السياسي، والتي فشلت في تحسين أوضاع عامة الناس من مواطنيها، والتي خاضت حروباً خاطئة، والتي أفرغت كل طاقتها في محاولة منها لسحق المصل الحقيقي الوحيد الواقي من التيار التكفيري في الإسلام، والتي يعيش في كنفها الآلاف ممن هم على استعداد تام لحمل رايات داعش السوداء، إنها لمملكة في مهب الريح.
المقالة تعبر عن رأي الصحيفة / الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها – ترجمة: نون بوست