السعودية/ نبأ- ذكرت صحيفة "الأخبار" اللبنانية في مقال للكاتب فؤاد إبراهيم، انه وللوهلة الأولى، يبدو اتهام «داعش» بوقوفه وراء هجمات باريس في 13 تشرين الثاني الجاري منطقياً، لا سيما بعد إعلان التنظيم نفسه مسؤوليته، وكذلك الرئيس الفرنسي الفرنسي فرانسوا هولاند. ولكن السؤال: عن أيّ «داعش» نتحدّث؟
وأوضح الكاتب، مرّ تنظيم «داعش» بتحوّلات ثلاثة استراتيجية وبنيوية ارتبطت جميعها بجغرافيا التنظيم/الدولة، فأضفى كل تحوّل بعداً إيديولوجياً وأبعاداً أخرى تنظيمية واستراتيجية. بكلمات أخرى، إن الجغرافيا كانت هي الموجّه العملي لإيديولوجيا التنظيم وليس العكس.
والمراحل هي على النحو الآتي:
المرحلة القُطرّية: (دولة العراق الاسلامية) (2006 ـ 2011)
شهدت هذه المرحلة مخاضات متعدّدة، وفي جوهرها كانت بمثابة عملية انتقالية للتنظيم بهدف «عرقنته»، بعد تجاوز الكتلة العراقية في التنظيم للشخصية الكاريزمية التي فرضها أبو مصعب الزرقاوي، مؤسّس جماعة التوحيد والجهاد (2001 ـ 2004) ثم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين (2004) عقب موافقة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري على البيعة المشروطة التي قدّمها الزرقاوي لهما وموافقتهما على إشعال حرب طائفية في العراق. بعد مقتل الزرقاوي في تموز 2006، قرّرت الكتلة العراقية في مجلس شورى المجاهدين الذي شكّله الزرقاوي في منتصف كانون الثاني 2006، وضمّ مجموعة تنظيمات مسلّحة من بينها (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وسرايا الجهاد الاسلامي، وكتائب الأهوال، وسرايا أنصار التوحيد وغيرها)، أن تضع يدها على التنظيم ورفضت تعيين أبو حمزة المهاجر (أبو أيوب المصري) خلفاً للزرقاوي بقرار من بن لادن والظواهري. وتمّ اختيار أبو عمر البغدادي ( اسمه الحقيقي حامد الزاوي) رئيساً لتنظيم دولة العراق الاسلامية.
مع اعتلاء أبو عمر البغدادي سدّة رئاسة التنظيم، بدأت عملية «عرقنة» واسعة النطاق، على قاعدة أن التنظيم يعمل على التراب العراقي ويستهدف أولاً وأخيراً تغيير الواقع السياسي في العراق، والدفاع عن أهل السنّة العراقيين.
تجدر الإشارة الى أن الزرقاوي عمل على التنسيق مع مجاميع شبابية متعاطفة مع القاعدة في الجزيرة العربية على وجه الخصوص مثل «قاعدة الجهاد في الجزيرة العربية»، وجاءت الى العراق مجموعات من عناصر القاعدة أو المتحمّسة بفعل التحريض من مشايخ الوهابية في السعودية الى العراق بهدف الانخراط في عمليات قتالية ضد الجيش والقوات الامنية والمدنيين الشيعة في العراق، وشكّل السعوديون إلى جانب الليبيين النسبة الأعلى من مجموعة الانتحاريين داخل العراق، بحسب تقارير أمنية عراقية وأميركية. ولكن هذه المجاميع لم تغيّر في التراتبية التنظيمية، فضلاً عن أن يكون لها تمثيّل من أي نوع في الطبقة القيادية. في هذه المرحلة، سعى التنظيم الى استقطاب جمهور القاعدة وعناصرها، في سياق عملية تثمير للزخم الشعبي والإعلامي الذي تحظى به شبكة «القاعدة»، في ظل شلل شبه تام أصاب قيادتها المتوارية والمعزولة في منطقة نائية على الحدود الباكستانية الافغانية. كان الزرقاوي والبغداديان من بعده يبنون أمجادهم من خلال استثمار الرأسمال الرمزي والشعبي للقاعدة، بعيداً عن أعين بن لادن والظواهري اللذين فقدا التواصل مع حليفهم في العراق، ومنعوا وصول أي تقارير نقدية لأدائهم. وقد مات بن لادن من دون أن يحصل على معلومات كان قد طلبها عن أبو بكر البغدادي.
ما يلزم إلفات الانتباه اليه أن التنظيم لم يكن لديه نشاطات خارج العراق، فقد كانت استراتيجية أبو عمر البغدادي ورفاقه في «دولة العراق الاسلامية» هي استعادة ما خسره «أهل السنّة» في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في نيسان 2003. قد يجادل البعض بأن العمليات الانتحارية التي نفّذتها (القاعدة) في عدد من فنادق العاصمة الاردنية، عمّان، في 9 تشرين الثاني 2005، وأودت بحياة العشرات، من بينهم رئيس الاستخبارات الفلسطينية بشير نافع، والمخرج السينمائي الدولي مصطفى العقاد، تخالف استراتيجية «العرقنة». في حقيقة الأمر، إن هذه العمليات بكل الغموض المحفوف بها لا تنهض دليلاً دامغاً على توجّه التنظيم، وقد بقيت عملية معزولة ولم تكن في إطار استراتيجية واضحة المعالم، بل تندرج في سياق المناكفة بين الزرقاوي والسلطات الاردنية.
في كل الاحوال، فإن مسمّى التنظيم (دولة العراق الاسلامية) يكفي في ذاته مجالاً جغرافياً لاستراتيجية عمل التنظيم، وبقي كذلك حتى اندلاع الأزمة السورية عام 2011. نزعة العرقنة لدى قيادة التنظيم انعكست بصورة واضحة في التشكيلة الوزارية الاولى لدولة العراق الاسلامية المعلن عنها في 19 نيسان 2007، والتي جاءت بطاقم عراقي (تسعة وزراء) ووزير حرب مصري (أبو حمزة المهاجر)، وكذلك الحال بالنسبة إلى التشكيلة الوزارية الثانية في 22 أيلول 2009. جمع التنظيم في تشكيلتيه الوزاريتين بين الشكل الكلاسيكي للدولة السلطانية كما نظّر لها الماوردي وابن فراء الحنبلي، والبنية الدولتية الحديثة، في عملية تهجين بائسة. ويبقى الأهم في ذلك كله أن الجغرافيا العراقية فرضت نفسها على استراتيجية عمل التنظيم، ولم تجنح به الى توسيع نطاق عمله خارج الحدود، فكان إشعال الحرب الطائفية السنيّة الشيعية العنوان الوحيد لاستراتيجيته.
المرحلة الإقليمية: الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) (2011 ـ 2014)
تولى أبو بكر البغدادي رئاسة تنظيم «دولة العراق الاسلامية» بعد مقتل أبو عمر البغدادي وأبو حمزة المهاجر في قصف بالطائرات على منزل كانا يجتمعان فيه بمنطقة الثرثار بالقرب من مدينة سامراء في محافظة صلاح الدين في 4 نيسان 2010، وأبقى على النسبة المرتفعة للتمثيل العراقي في التنظيم. حينذاك، بدأ يتسلل أول الشكوك وسط المقاتلين غير العراقيين حول انفراد العراقيين بالقيادة فيما يتم إقحام العرب (والسعوديين بدرجة أساسية) والأجانب في العمليات الانتحارية.
رافق قرار انخراط التنظيم في الأزمة السورية جدل واسع، وخلاف مفتوح مع قيادة «القاعدة». رواية «داعش» تقول إن أبو بكر البغدادي أوفد أبو محمد الجولاني الى سوريا ليشكّل فرعاً لتنظيم «الدولة» في بلاد الشام، وبايع على ذلك بعد أن قبض أموالاً من البغدادي لتنفيذ المهمة. في المقابل، تقول رواية «القاعدة» بالفصل بين النطاقين، وأن لا ولاية للبغدادي على الجولاني وفي رقبته بيعة للظواهري.
على أيّ حال، أعلن أبو بكر البغدادي حلّ «جبهة النصرة» بتاريخ 9 نيسان 2013 وقيام الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش). ومرة أخرى، فرضت الجغرافيا نفسها على بنية التنظيم وتركيبته القيادية، حيث تمّ إدماج عناصر سوريّة في التشكيلة القيادية للتنظيم الجديد. في غضون ذلك، نصح القيادي واليد اليمنى لأبو بكر البغدادي، حجي بكر (واسمه الحقيقي سميرعبد محمد نايل الخليف أو ينايل سمير)، الخبير في تصنيع السلاح الكيميائي والأسلحة عموماً، والضابط السابق في الجيش العراقي، وقد قتل في سوريا في كانون الثاني 2014، نصح البغدادي بإصدار توجيه صارم لقيادات التنظيم العراقيين بعدم الذهاب الى سوريا، بهدف تحصين الساحة العراقية، وتفويض فريق سوري للقيام بمهمة تشكيل فرع للتنظيم في سوريا، في عملية تخادم تفضي في نهاية المطاف الى تمدّد «الدولة».
ثمة ما يلفت في هذه المرحلة، أن البنية التنظيمية لم تعد مقتصرة على المكوّن العراقي، بل فُتح الأفق على نطاق واسع لاستقبال آلاف من العناصر المسلّحين من تنظيمات مختلفة، وعلى رأسها «القاعدة». وفي غضون فترة قياسية، نجح «داعش» في استقطاب آلاف المقاتلين العرب والأجانب، وأن يكون اللاعب الأقوى بين المجموعات المسلّحة كافة في الميدان السوري. وبمرور الوقت، بدأ التنظيم، وبوتيرة سريعة، يقضم من الرساميل البشرية لدى المجاميع المسلّحة الأخرى، بما في ذلك «جبهة النصرة». وفي نهاية المطاف، فإن الانتقال إلى سوريا كان يعني أن النطاق الجغرافي لعمل التنظيم بات مفتوحاً على كل الميادين ذات الصلة بالميدان السوري، وعلى وجه الخصوص لبنان. استراتيجياً، بدأ «داعش» يعمل على خطّين: الحرب الطائفية، وتصفية المنافسين (الافتراس الداخلي) على الساحة السوريّة.
المرحلة الكونية: الدولة الاسلامية/الخلافة (2014ـ الآن)
بعد سيطرة «داعش» على محافظة الموصل في 10 حزيران 2014، وتالياً إعلان قيام «الدولة الاسلامية» في 29 حزيران من العام نفسه، انتقل التنظيم من مرحلة القُطرية (دولة العراق الإسلامية) والإقليمية (داعش) الى الكونيّة (دولة الخلافة).
أسقطت الايديولوجيا على الجغرافيا وفق منظور اسكاتولوجي مبيّت (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، وكأن نبوءة جرى استدعاؤها على وقع تمدّد التنظيم على مساحة تمتد من حلب السورية الى ديالى العراقية. ما تجدر الإشارة إليه، أن نجاحاً إعلامياً لافتاً حقّقه التنظيم عبر احتفالية متقنة بسيطرة التنظيم على الموصل ومن ثم إعلان دولة الخلافة، إذ انتقل آلاف من العناصر في فروع القاعدة لإعلان البيعة للبغدادي. هنا تآكلت تركة بن لادن والظواهري، وانحلت في مشروع «الدولة» التي بات لديها منذ الآن مشروع كوني.
نقل «القاعديون» الى «دولة/الخلافة» بعداً غلوبالياً/عولمياً لطالما احتكروه على مدى سنوات، حين كانوا ينفردون في التخطيط لضرب معاقل «العدو المفضّل»، أي الغرب كما يسمّونه.
وهنا يظهر شكل جديد من التقاتل بين «الدولة» و»القاعدة». فنجاح البغدادي ورفاقه في سرقة أمجاد بن لادن والظواهري، وتفكّك شبكة «القاعدة» لمصلحة «الدولة» في الفروع الأكثر حصانة مثل أفغانستان، وباكستان، ومصر، واليمن، والجزيرة العربية، وشمال أفريقيا، والشيشان، وجمهوريات القوقاز، وصولاً الى القارة الأوروبية، قد أحدثا صدمة لدى «أرباب الجهاد» مثل بن لادن والظواهري.
وسوف نجد كيف التقت الاستراتيجية الأصلية للتنظيم بإشعال حرب طائفية بين السنّة والشيعة مع الاستراتيجية الكونية لتنظيم «القاعدة»، لتنشأ استراتيجية الجبهات المتعدّدة. لقد نقل البغدادي الحرب الطائفية الى خارج حدود العراق، وجعل من الشيعة في الجزيرة العربية هدفاً مركزياً (كما ورد ذلك في خطابين لأبو بكر البغدادي بعد تقمّصه منصب الخلافة)، ولم يكن هو أو من كان قبله معنيّاً بأي طائفة شيعية خارج حدود العراق.
انتقال «داعش» الى المسرح الكوني لا يعني القطيعة التامة مع الخيارين القُطري والإقليمي، بل هو بمثابة استكمال لجبهات المواجهة. فالتنظيم في الوقت الذي يقاتل في الجبهة الطائفية ويعدّ قتال الشيعة على وجه الخصوص أولوية استراتيجية لدى التنظيم، يقاتل أيضاً على جبهة الأنظمة السياسية العربية والاسلامية التي يصمها بالمرتدّة، وصولاً الى الجبهة الاممّية حيث تتماهى الايديولوجيا مع الجغرافيا، تجسيداً لمفهوم الأمة المؤسّسة على مبدأ العقيدة، فيصبح كل مؤمن مهما كان موطنه جزءاً من الأمة، فيكون المجال الجغرافي مفتوحاً على مساحة تمسرح المؤمنين…
في النتائج، تمفصلت جغرافيا «الدولة» وبصورة شبة كاملة على كونيّة «القاعدة»، ما عنى تحوّلاً بنيوياً وإيديولوجياً واستراتيجياً جوهرياً لدى «الدولة». بكلمات أخرى، إن عراقية «الدولة الاسلامية» بإيديولوجيتها، واستراتيجيتها، وبنيتها التنظيمية، كانت تعبيراً عن اندكاك التنظيم في المجال الجغرافي العراقي والاستراتيجية الطائفية (الحرب السنيّة الشيعية)، فيما كانت «داعش» بمكوّنيها العراقي والشامي انفتاحاً نسبياً، وإلى حدّ ما إقليمياً، على مستويات عدّة: إيديولوجية، واستراتيجية، وتنظيمية، وأخيراً، كان مشروع «دولة الخلافة» انتقالاً كونيّاً يستوعب معه مجاميع «القاعدة» باستراتيجيتها الأممية، أي إضافة بعد جديد في استراتيجية التنظيم يقوم ليس فقط على إشعال الحرب الطائفية السنيّة الشيعية كما كان يفعل التنظيم في العراق والذي على أساسه نشأ، ولكن بعد إدماج التركة القاعدية في التنظيم، أصبح هناك عنصر المصادمة مع الغرب أيضاً، وقد يكون هذا الفخ غير المقصود الذي سوف تقع فيه «دولة» البغدادي، خصوصاً بعد هجمات باريس في 13 تشرين الثاني الجاري، وربما يكون هذا هو ردّ «القاعدة» على من سرق أمجاده الماضية.