يبدو واضحاً أنه مع سقوط المشروع السعودي في اليمن الذي كان عنوانه المبادرة الخليجية، أدركت المملكة، الغارقة في هواجسها ومشكلاتها المتاخمة لحدودها بتداعياتها الداخلية التي تزداد، أنها لم تعد اللاعب الإقليمي الفاعل، وأن العالم يتغيّر من حولها بوتيرة سريعة ووفق نتائج غير محسوبة.
كتب د. فؤاد إبراهيم في صحيفة “الأخبار” اللبنانية أنّ “خطوات متعاقبة وسريعة قامت بها السعودية على وقع التحوّل الثوري المفاجئ في اليمن. بدأت أولاها بمباركة الاتفاق السياسي بين جماعة «أنصار الله» الحوثية وبقية الأطراف السياسية اليمنية يوم الأحد الفائت برعاية أممية وبحضور رئيس الجمهورية عبد ربه منصور هادي، ثم تلت ذلك بإرسال سفيرها الجديد إلى صنعاء، أي بعد يوم من استقالة الحكومة وهروب رجل السعودية القوي اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع (المنحلة بقرار جمهوري لم ينفذ) من مقر الفرقة إلى إحدى السفارات الخليجية، بحسب مصادر حوثية”.
وأشار إبراهيم إلى أنّ اليمن”تغيّر التاريخه لمصلحة الثورة الشعبية التي انطلقت في شباط 2011، فكان فصلها الثاني إسقاط الحكومة التي جاءت بها المبادرة الخليجية بقيادة السعودية في نيسان 2011، التي رفضها الثوّار حينذاك، لأسباب عديدة، لكونها منحت الرئيس المعزول علي عبد الله صالح حصانة ضد أي ملاحقة قضائية، وأفسحت في المجال لعودته ووزراءه إلى حكومة الوحدة الوطنية”.
وإعتبر أنّ “الثورة أثبتت الشعبية في فصلها الثاني أمس، فشل المبادرة الخليجية، بل إن رئيس الحكومة المستقيل سالم باسندوه وجّه في خطاب الاستقالة انتقاداً مباشراً إلى المبادرة وإلى رئيس الجمهورية، لاستئثاره بالسلطة وعدم قبوله تقاسم السلطة بينهما بناءً على بنود المبادرة”.
وتابع: “السعودية الغارقة في هواجسها ومشكلاتها المتاخمة لحدودها بتداعياتها الداخلية تزداد اقتناعاً اليوم بأنها لم تعد اللاعب الإقليمي الفاعل، وأن العالم يتغيّر من حولها بوتيرة سريعة ووفق نتائج غير محسوبة. وبات المطلوب من الرياض أن تجعل من التواضع مستشاراً حكيماً، لأن ما دفعته في «العزوف المتعالي» كان كبيراً وسوف يكبر إن قررت تجاهل المعادلات التي يمكن أن تصنعها القوى المنافسة الصغيرة والكبيرة”.
ويرى الباحث السياسي “لدى الجانبين السعودي والشعبي اليمني قناعة مشتركة بأن الثورة في فصلها الثاني أطاحت الإمبراطورية السعودية في اليمن. ردود الفعل السريعة من الجانب السعودي تؤكّد القناعة، وكذلك تعاطي اليمنيين معها. يدرك اليمنيون منذ التظاهرة الأولى التي خرجت في 16 كانون الثاني 2011 أن الرياض أول من سيعارض ثورة الشباب اليمني، وأول من سيتحرك لإبقاء النظام متماسكاً. لكن اليمن ليس البحرين، إذ من غير الممكن إرسال قوات «درع الجزيرة» إلى مدن الثورة اليمنية بذريعة حماية المنشآت الحيوية، أو بالأحرى لحماية النظام، كما فعلت في البحرين، فكانت المبادرة الخليجية أداة الثورة المضادة التي اعتقد السعوديون ومن ورائهم بعض الخليجيين أن الثورة اليمنية فشلت وأعاد النظام السابق إنتاج نفسه بوجوه أخرى”.
موضحاً أنّ “مشروع سعودي بعنوان المبادرة الخليجية، وهو ما يدركه اليمنيون في شماله وجنوبه ومن كل طوائفه”.
وإعتبر إبراهيم أنّ “الثوّار أحبطوا، وفي مقدّمهم جماعة «أنصار الله» الحوثية، الخطاب الطائفي الجاهز للاستخدام في مثل هذه الحالة، بفعل عاملين رئيسيين: المشاركة الشعبية المتنوّعة في التغيير الثوري، والخاتمة السياسية السريعة والكفوءة. فالمنجز الميداني الذي حقّقه الحوثيون لم يصرفوه سياسياً، شأن التنظيمات المسلّحة حين تفرض سيطرتها على الأرض، ولهم في ذلك فلسفة ينفردون بها عن باقي القوى السياسية اليمنية، بل وغير اليمنية… فهم يرون أن كرسي المعارضة سيبقى فارغاً في المرحلة المقبلة، وهم وحدهم الأقدر على ملئه حتى يكونوا الأقرب إلى روح الشعب وأهدافه”.
وتابع موضحاً : “بكلمات أخرى، يفضّلون حراسة الثورة على المشاركة في حصد ثمارها في السلطة. وهي بالمناسبة قناعة ورثوها عن مؤسس الجماعة الراحل السيد حسين الحوثي الذي كان يؤكّد لكوادر الجماعة الإمساك بالأرض والنأي عن شؤون الحكم. قد تنطوي القناعة على طمأنة للجانب السعودي المسكون بمؤامرة «المخطط الإيراني» في المنطقة، لكن الإجماع الشعبي في اليمن يتمحور حول رفض العودة إلى الوراء، فالنفوذ السعودي لا بد من تسييله في مبادئ «حسن الجوار» و»عدم التدخل في الشؤون الداخلية»، و»التعاون من أجل مصلحة البلدين والشعبين»”.
وأشار إبراهيم إلأى أنّ “السعودية التي كانت تتعامل مع اليمن بمثابة «حديقة خلفية»، وتدس أنفها في كل شؤونه في ظل نظام الـ»payroll» الذي اتبعته منذ عقود مع الطبقة السياسية، وقادة الجيش، وزعماء القبائل، ورؤساء الأحزاب، إلى درجة ارتهان القرار السياسي اليمني، تواجه اليوم تحوّلاً جذرياً، ما دفع الشيخ الوهابي أبو ماريا القحطاني، الشرعي السابق في «جبهة النصرة»، إلى الدعوة إلى ثورة سنيّة مضادة لإطاحة ما وصفها ثورة الرافضة، رغم أن الحراك الثوري الأخير كان بمشاركة كل الأطياف، وكانت مدن كبرى مثل (تعز، الحديدة، وشبوة وغيرها) حاضرة بكثافة عالية في الحراك، وكان قادة اللجان الشعبية من كل المكوّنات ينسّقون مواقفهم على الأرض وفي العاصمة، وخصوصاً في حماية المنشآت الحكومية”.
وتابع: “عدّة رسائل طمأنة بعث بها «أنصار الله» إلى داخل اليمن وخارجه، فهم أولاً وأخيراً فضّلوا الشراكة في حدّها الأدنى على الانخراط التام في السلطة، حفاظاً على القاعدة الشعبية للجماعة، والقلق الإيماني من «مفاسد السلطة»، والأهم هو صيانة مكتسبات الثورة. يشير الحوثيون إلى تواصل مع الرياض، لكن ليس على سبيل التفاوض على أهداف الحراك الثوري، ولكن لإيصال رسالة واضحة بأن الحراك لا يحمل تهديداً لأحد، فهو بأيدٍ يمنية ومن أجل اليمنيين جميعاً”.
وإعتبر أنّه “مهما تكن تصوّرات صنّاع القرار في الرياض لما جرى في الجارة الجنوبية، فإن ثمة حلحلة بدت واضحة في الموقف السعودي، على الأقل في العلاقة مع إيران التي قرر سعود الفيصل أن يلتقي وزير خارجيتها وأن يطلق تصريحاً لافتاً بتثبيت ثنائية النفوذ ويضرب موعداً للقاء نظيره محمد جواد ظريف في الرياض في وقت لاحق”.
مشيراً إلى أن “الصدف في السياسة نادرة، إن لم تكن مستحيلة، فإن لقاء سعود الفيصل وجواد ظريف في نيويورك لم يكن محكوماً بالموسم السنوي، فإن المتغيّر الثوري اليمني، إلى جانب خطر «داعش» وملفات أخرى مثل «الثورة الشعبية في البحرين» والأزمة السورية حضروا جميعاً في اللقاء، وسوف يحضر مع ملفات العراق ولبنان وغيرها إن قرر الطرفان الدخول في مفاوضات جديّة”.
وتابع: “حتى موعد اللقاء الآخر، تشعر الرياض بأن طبخة التحالف الرباعي (عبد ربه منصور رغم خلفيته الجنوبية الاشتراكية، وعلي عبد الله صالح، وعلي محسن الأحمر، والإصلاح) التي أعدّت في الرياض قبل أشهر قد فسدت على وجه السرعة، وبات من الصعب الحديث عن نفوذ سعودي فاعل، خصوصاً في ظل قرار شعبي يقوم على خلفية رصينة يعبّر عنها الثوّار بلغتهم، ومفادها أن لا يقع وكلاء التاريخ تحت وطأة خديعة أخرى برائحة النفط”.