ماجد الوشلي
لا تزال طفولة اليمن منذ سنوات عديدة تحت نيرانِ عدوٍ لا يعرف عن الدين والأخلاق والإنسانيةِ شيء، وعلى مرأى ومسمع عالمٍ لا يقلُّ عنه دموية وإجراماً ووحشية. فالأول يقتلُ بطائراته وصواريخه وذاك الآخر يقتلُ بصمته وسكوته، ويقبل على نفسه وصمة العار لتاريخه ومستقبله، ويُصمِت جوارحه حتى لا يصبح في قائمة النضال، ويخشى أن تصيبه أوهام المعتدين.
نعم هذه هي الحقيقة وهذا هو المشهد المؤلم في طفولة الإنسانية، ونحن نلاحظ بين الحين والآخر أنهم لم يستثوا بصواريخهم المعتدية أحداً.
والحال أننا نراها تنزلُ من دون استئذانٍ لتدهم الأبرياء من دون رحمة وتحولهم إلى أشلاءٍ متناثرة. تأتي طائراتهم لتقذف صواريخها وترحلُ تاركةً خلفها رائحة الموت لا تفريق بين مدني ولا محارب لا بين الصغير والكبير. لقد صبوا جام حقدهم على كل آثار الحياة والإنسان، وجعلوا من اليمن مسرحاً عبثياً لتجارب أسلحتهم الملطخة بدماء الأبرياء من أبناء الشعب اليمني.
وفي النتيجة، نرى جميعهم مدنيين أبرياءْ نساء وأطفالاً، رجالاً ومسنّون، ذكوراً وإناث، وكأنها تريدُ أن تكون عادلةً في إجرامها فتقتل الجميع بلا استثناءْ. طفولة اليمن أصبحت عنواناً لكل مظلومية العالم لأن أختزنت بين كفتيها حروف الأوجاع وأبجدية الآلام.
وهنا، لا بد من التذكير بإحصاء فاق التصور بشأن الجرائم المستمرة من قبل التحالف السعودي الأميركي على طفولة اليمن، فقد بلغ عدد القتلى من الأطفال ما يقارب 3359 والجرحى 3310، واجمال الضحايا 6669، بحسب إحصاء لـ”المركز القانوني للحقوق والتنمية”.
وهذا عددٌ لا يحصى من الجرائم والمجازرِ غير القانونية التي استمرأ العدوان على ارتكابها.
وهنا نُذكٍر بالجريمة الكبرى بحق أطفال اليمن، يوم الخميس 9 أغسطس / آب 2018، من طلاب ضحيان في مدينة صعدة الذين استهدفهم طائرات التحالف السعودي الأميركي بغارةٍ معتدية لا تقلُّ بشاعةً عن سابقاتها، راح ضحيتها حوالي 51 شهيداً و79 جريحاً جُلُّهم من الأطفال والمدنيين الذين كانوا في طريقهم إلى مركزهم التعليمي.
وهذه الجريمة التي استنكرتها الأمم المتحدة و”الصليب الأحمر الدولي” ومنظمات دولية وإقليمية وأكدت عدم مشروعية الغارات والمجازر على المدنيين والأبرياء من أبناء الشعب اليمني، لم تلاق استجابة ولم تغير من موازين المعادلة شيئاً.
هذه المشاهد وغيرها التي تخالف كل قوانين الإنسانية وتضرب بها حرض الحائط، ولا تبالي بأي من الأعراف الدولية والتي تحرم كل أنواع القتل ضد الطفولة، وتجعل من قضايا الإنسانية عنواناً عريضاً وخطاً أحمر في المحكمة الدولية ومجلس الأمن الدولي، وتُقيم العقوبات والحروب على من خالفها؛ إلا أننا نجدها في اليمن غائبة عن ذلك بكل قوانينها وبرامجها، وهذا ما يجعلُ دول العالم مسرحاً للعبة الأمم وعشوائية القرار لمن يملكُ القوة.
ونلاحظُ ردود الفعل الدولية ولعل أبرزها منظمة “يونيسف” في تصريحها بعد جريمة طلاب ضحيان، إذ قالت: “هل يحتاج العالم إلى المزيد من الأطفال القتلى لوقف الحرب على اليمن، ولا أعذار بعد مقتل العديد من الأطفال في الهجوم على صعدة”.
ونجد من يساوي بين الضحية والجلاد في مواقفهم، فها هي منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة تقول: “أطراف النزاع في اليمن يجب أن تلتزم بالقانون الدولي”، ثم تقول إنها “الأزمة الإنسانية الأسوا في العالم”.
إذا كانت قضية اليمن بهذا الحجم فلماذ كل هذا التغاضي عما يحدث برغم المجازر المهولة بحق المدنيين والأبرياء؟ لا بد من إعادة النظر في كل ما يحدث حتى تجدي نفعاً في إيقاف الحرب العدوانية على كل مقومات الحياة اليمنية.
والمفارقةُ العجيبة هي حين تسمع تبريرات العدوان بأنهم قصفوا أخطر شبكة كانت تعدُ للمنظومة الصاروخية والقتالية، ويتباهوا بكل هذه الجرائم، وأنها ضمن رصد دقيق وعمل مخابراتي تتبع كل خطواتهم. هل يعقل أننا في القرن الواحد والعشرين بكل تطوره وعظمته، في برامج التكنولوجيا الحديثة بأرقى أجهزتها، أن السعودية لم تستطع أن تفرق بين الأطفال والمقاتلين؟ هل هذه هي أكذوبة أخرى ضمن مسلسل أكاذيب وفبركات العدوان منذُ ثلاث سنوات ونصف؟ لم تعد خافية كل هذه الجرائم على أحد وغطاءهم عنها لن يمر مرور الكرام، وهذه الدماء البريئة ستجرفهم إلى نهاية التاريخ مهما كانت النتائج وهذه سنن التاريخ ولا يمكن أن تتغير.
إنّ هذه الجرائم العدوانية بحقِ أطفال اليمن كفيلةٌ بأن تكون السبب الرئيس لملاحقة النظام السعودي والإماراتي في كل المحافل والمحاكم الدولية، وتعريته أمام الرأي العام حتى لا تبقى أي مبررات حول مشروعية اعتداءه على اليمن، لأننا نلاحظ بالجرم المشهود أنها جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي ولا تقبلها المواثيق والمعاهدات الدولية. فضحايا القنابل العنقودية شاهدة على دموية الإجرام بحق أطفال اليمن وعلى مدى سنوات عديدة.
طفولة اليمن ما زالت منذ سنوات تحلم بحياة هادئة وعيش مُستقر في ليلها ونهارها، وتجعل من البسمة وجهاً مشرقاً لغدٍ يتحققُ فيه أحلامُها وآمالها؛ إلا أننا نرى صدماتٍ تقرعُ جرس الحياة وتقلب المشهد دموياً، وسرعان ما أطفأها صاروخٌ وحشيٌ مشتعلٌ بالحقدِ والإجرام ليخلّف وراءه دماءً وأشلاءً وجراحاتٍ ودموعاً وأوجاعاً. وبرغم كل ذلك، ما زلت طفولةُ اليمن عنوانأً لكل مظلومية تبحث عنها الإنسانية في أورقة الحياة.
ولا بد هنا من نداءٍ للإنسانية جمعاء: أخبروني أمام كل هذه المجازر التي لم تعُد خافية أين دُفِنَ العالم؟ في أي مقبرة وارت الصهيونية ثراه حتى لم نسمعْ لهُ حسيساً من كل ما يجري اليوم في اليمن من مجازر يومية؟ هل أصبحت طفولة اليمن ثقلاً على قانون الإنسان حتى يتخلص منه، أم أن قانون الأمم لا يصلح إلا لمن يؤمن بفكره وينادي بثقافته، ومن يخالفه يصبحُ مسرحاً دموياً لكل ألوان القتل ومخالفاً شرعياً لأدوات الإجرام؟
هل أصبحَ ضميرُ الإنسانية ميتاً إلى درجة أنك لم تعُد تفرق بينه وبين حروف الصمت وأبجدية السكوت؟ أين هي الشرعية الدولية و”عصابة” الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي؟ بل أين هي شعارات الإنسانية والحرية ومدعي الثقافة الإنسانية؟ هل أصبح معنى الحيادية وعدم التدخل في الدفاع عن الطفولة جريمة يعاقب عليها القانون؟ ماذا تركت لكم الجامعة من آثار على نتائج حياتكم ووطنكم وبلدانكم هل أصبحتم لم تفرقوا بين الإنتماء الوطني والإنتماء السياسي؟
أي جريمة حلت بعقولكم حتى أصبحتم بهذه الحالة كانكم منتقمون من وطنكم؟ ولماذا كل هذه المجازر والجرائم بحق طفولة اليمن؟ أين اتفاقات ولوائح حقوق الإنسان؟ أين القوانين والشرائع واللوائح الدولية التي تنادي بحفظ وصيانة الدماء واحترام إنسانية الإنسان؟ ألم تعد كافية تلك الجرائم حتى تصبح المعادلة واضحة لكل من لا يزال يظن بنظرات واهمة حول ما يحدث في اليمن؟
ولنُسمِع من به صممُ: أين العناوين اللافتة للنظر والشعارات الرنانة واليافطات العريضة التي خرموا بها آذاننا؟ أما آن الأوان أن يتذكروا ولو مقدمةً واحدةً لمعاني الإنسانية؟
أين نحن وأين نعيش؟ في عالم وهمي سرابي يتلاعب به شرذمةٌ من المجرمين وثلة من العابثين بوطننا؟ عصابة من مصاصي الدماء وهواة القتل وسفك الدماء، عصابة من صهاينة العرب وممالك الإجرام؟
فليسقط عالمهم السرابي ولتسقط شرعيتهم الدولية وقوانينهم ولوائحهم وشعاراتهم ويافطاتهم، فلتسقط كلها أمام قطرة دمٍ يمني، أمام أشلاء طفل متناثرة، أمام جثث الضحايا المتفحمة، فلتسقط كلها ولتذهب إلى حيث المنتهى لأننا لم نعد نأمن من منكرهم وخداعهم، لم نعد نراهن على صفقاتهم وآمالهم لم تعد قوانينهم تمثل لنا شيئاً لأنها أصبحت في مزبلة التاريخ الدموي الشاهد على جرائمهم وعدوانهم على كل مقومات الحياة اليمنية.
وفوقَ كل ذلك، ننادي من به ذرة من إنسانية: أفِق أيها العالم الرازح خلف قضبانِ الصمت، إن ما يجري في اليمن كفيلٌ بأن يبعثكم من موتتكم ويكسر صمتكم قبل أن تذوقوا حر نيران الظلم والإجرام. أفيقوا قبل أن لا يكون هناك مجالٌ ومتسع لأن تفيقوا لأنها فاصلة للتاريخ وبين مفترق الطرق ونقطة الموقف. وهنا لا بدَ من كلمة حق كي لا تكون شريكاً في قتل الطفولة والإنسانية.
قد تمرُّ هذه الكلمات على قارئها كحروفٍ عادية وعباراتٍ عابرة صيغت ضمن أبجدية التنديد والاستنكارِ وعرض المظلومية، لكنها واقعاً شيءٌ آخر. نختلفُ في عمقنا وفكرنا، نصل الرسالة ونقدم الحجة وتبقى هذه الكلمات في تاريخ الشرف ومواقف الإباء.
إنها آهاتُ ثكلى، دموع يتيم، أشلاءُ طفلٍ بريء، صراخُ أبٍ مكلوم، إنها جرحٌ لن يبرى إلا بالنصرِ الإلهي المؤزر، فحتماً سننتصر والعاقبة للمتقين.
إن في اليمن الجريح عنوانٌ لكل مظلوميةِ الدنيا. لا تعد الكلمات معبرةً عن كل ما يختزن فيها، فقد أعمت أعيونهم أوهام وسراب العابثين بالأوطان، واعتدوا على إنسانية الإنسان، ولم تكف صواريخهم على طفولة اليمن بل أرسلوها عربوناً كي تبقى محفورةً في مزبلة تاريخهم الملطخ بالدماء، التاريخ الأسود.
وكان لا بد من كلمة حرة تجعلُ من الضمير شاهداً على كل جرائم العدوان بحق المدنيين والأبرياء من أبناء الشعب اليمني المقاوم.