خليل حرب – صحيفة السفير
في مفاهيم الجهاديين الخارجين من مشارب الوهابية السعودية، الأسد ليس سوى «نصيري»، إبادة طائفته واجب سماوي!
الحربان أصبحتا أكثر تداخلاً؛ او هي حرب واحدة، وتمتد ساحاتها الى ما هو ابعد من سوريا والعراق…. الى لبنان ومصر واليمن وليبيا وتونس والمغرب والجزائر وتشاد ومالي. الاميركيون يرون تداخلاً، والفرنسيون كذلك، بالإضافة الى البريطانيين والعديد من الاوروبيين والمصريين والعراقيين والسوريين وبعض الخليجيين. وحدهم السعوديون، يبدون خارج المشهد او كأنهم أتوا متأخرين، كما في بيان الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز امس.
ويذهب آخرون الى القول بأن السعوديين يرون الواقع المر، لكنهم يتمنعون عن استخلاص الوقائع المناسبة، التي ستحتم عليهم عندها القيام بمراجعة إقليمية قاسية في معانيها السورية والعراقية.. والايرانية طبعاً!
عبد الفتاح السيسي يقوم بأول زيارة خارجية له منذ انتخابه، الى الجزائر، ويحدد العنوان الرئيسي للزيارة الرئاسية المصرية: مكافحة الارهاب، وتنسيق التعاون بشأن ليبيا التي اصبحت مرتعاً لـ«الجهاديين» الذين لم تعد تردعهم حدود ولا شريعة. ليبيا أصبحت كما هو معروف الخطر الآتي من الحدود الغربية لمصر، الحليف المحبب للسعوديين الآن. نوري المالكي حذر مراراً، وقبل «غزوة الموصل» بوقت طويل من خيط الإرهاب الممتدّ من بلاد الرافدين وصولاً الى المغرب العربي. لا يرى السعوديون من المالكي سوى أنه «شيعي ومجوسي»! عبدالله الثاني قرع جرس الخطر في المملكة من انفلات المشهد «الجهادي» بعد انقضاء العام الاول من الازمة السورية وتغلغل خلايا فورة التكفير الجهادية في ثنايا المملكة الهاشمية. بشار الاسد قال مراراً إن ما تعيشه سوريا لم يعد يهددها وحدها وانما المنطقة برمتها. في مفاهيم الجهاديين الخارجين من مشارب الوهابية السعودية، الأسد ليس سوى «نصيري»، إبادة طائفته واجب سماوي!
وحدها القيادات السعودية بدت كأنها خارج السرب. بالكاد خرجت إدانات ضد التفجيرات التي ظلت تستهدف العراقيين وتحصد الآلاف منهم، وتضرب ركائز الامن العراقي من جيش وقوات أمن. اما في سوريا، فلم يكن المسؤولون السعوديون يرون سوى النقاء الثوري في كل ما يجري. بدا كأن جوهر الموقف السعودي يرتكز حصراً على فكرة محاولة «مذهبة وتطييف» المالكي والاسد، بما يخدم مصالح المملكة او القائمين على سياساتها الخارجية والأمنية الضيقة.
انتظرت مملكة آل سعود حتى آذار الماضي لتدرج تنظيم «داعش» على لائحة الارهاب، قبل ايام من وصول الرئيس الاميركي باراك اوباما اليها. لم تبذل جهداً يذكر لدحض الاتهامات المتكاثرة حولها بشأن ضلوعها، او ضلوع امراء من الاسرة الحاكمة او التيار «الجهادي» داخل المجتمع السعودي، في دعم وتسليح جماعات مختلفة على امتداد ساحات الحرب في كل من سوريا والعراق.
وانتظرت المملكة نحو عشرة ايام لتحدد موقفاً واضحاً من غزوة «داعش» العراقية التي لامست حدود العاصمة بغداد، وكأنها لم تجد في الانهيار الأمني العراقي وتقدم المسلحين من الحدود السورية الى الموصل وتكريت وسامراء حتى ديالى وبغداد، ما يستدعي صدور موقف عاجل وواضح، أقله من باب التضامن الديبلوماسي الشكلي مع عاصمة عربية مجاورة، فيما اعلام «داعش» وراياتها باتت ترفرف باسم «الدولة الاسلامية» على حدود مملكة القلق.
لكن التأخر، او الارتباك، السعودي بشأن مثل هذه الاحداث، لا يقتصر على ذلك. فالاشارات الخارجة من السعودية جاءت متضاربة. وبينما اندفعت وسائل الإعلام السعودية، او المموّلة منها،سريعاً الى توصيف الكارثة الجديدة التي ألمّت بالعراقيين، بأنها «ثورة»، تماماً مثلما فعلت في سوريا، وذهب بعضها الى اعتبارها «ثورة سنية» ضد النفوذ الإيراني، خرج وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل في المؤتمر الاسلامي في جدة لينفي صفة «الثورية» عن «داعش» ويؤكد تصنيف هجومها العراقي على أنه إرهاب، لكنه في الوقت نفسه، تجاهل دور التنظيم ذاته في سوريا، وسيطرته على مناطق في الشرق السوري المتواصل جغرافياً مع مناطق سيطرته في الغرب العراقي.
ولا يبدو هذا الارتباك السعودي ناجماً عن خفة سياسية. كما انه ليس من الواضح ما اذا كانت السعودية نفسها التي اتخذت موقفاً صارماً من «الاخوان المسلمين» في مصر وادرجت التنظيم على لائحة الارهاب ايضاً، في صدد القيام بمراجعة جذرية لسياساتها الاقليمية، خصوصاً في ما يتعلق بالازمتين السورية والعراقية و«حربها الباردة» مع ايران.
ولقد كان من اللافت للنظر أن وزير الخارجية الاميركي جون كيري الذي قام بزيارة الى المنطقة شملت بغداد واربيل والقاهرة، لم يحرص كما اعتاد الاميركيون تاريخياً، على ان تكون السعودية محطة ضمن أي جولة اقليمية لمسؤول اميركي بارز بمستواه، في وقت كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يجري في الوقت ذاته محادثات مع كبار المسؤولين السعوديين. وربما استدرك الاميركيون الامر، عندما اعلن كيري فجأة من بروكسل نيته العودة من اوروبا الى المنطقة بعد الاجتماع مع الوزراء العرب الثلاثة في باريس، لزيارة الرياض اليوم الجمعة ولقاء الملك عبدالله بن عبد العزيز بناء على طلب من الرئيس الاميركي باراك اوباما.
ومهما يكن، فإن الحركة الاميركية ازاء تطورات المشهد العراقي تعكس قلقاً أميركياً اكبر مقارنة بما يصدر عن المسؤولين السعوديين. وستكون من المفارقات الغريبة ان يظهر الاميركيون، ولو شكلياً، أكثر توتراً وقلقاً ازاء الخطر المحدق باستقرار العراق ودول الجوار، من السعوديين انفسهم.
لكن التوتر الاميركي والاستعجال بإرسال المستشارين العسكريين الى بغداد لتنسيق الرد العسكري على تقدم «داعش» وحلفائها، يعكس مجموعة حقائق تتضح يوماً بعد يوم:
ـ واشنطن حريصة على تقدم مفاوضاتها النووية الحساسة مع ايران وتلاحظ محاولات التخريب الإقليمية التي تستهدفها كما يجري عبر الساحة العراقية.
ـ وسائل الاعلام السعودية تواصل التعامل مع التطورات العراقية من باب التشفي بحكومة المالكي، وفي غالب الأحيان، من باب تمجيد «بطولات» المسلحين المعارضين له برغم مرور أيام على تصريح سعود الفيصل.
ـ الملك عبدالله خرج بموقف يبدو قوياً بعد اجتماع لمجلس الامن الوطني ليأمر باتخاذ «كافة الإجراءات اللازمة لحماية… الأمن الوطني مما قد تلجأ إليه المنظمات الإرهابية أو غيرها من أعمال قد تخل بأمن الوطن».
ـ مجلس الامن الوطني هذا يترأسه أمير الظلام بندر بن سلطان الذي أعفي أو أجبر على التنحي من منصبه كرئيس للاستخبارات السعودية، ونزع منه ملف الحرب السورية قبل نحو شهرين، بعد سجال بينه وبين الاميركيين حول أسلوبه المتعثر في ادارة ملف تسليح المعارضة السورية، كما ابعد اخيه غير الشقيق الامير سلمان بن سلطان من منصب نائب وزير الدفاع الذي كان بموجبه يتولى قيادة غرفة العمليات العسكرية السعودية في الاردن لتنسيق الحرب على سوريا.
إلا أن الأكثر اهمية، الى جانب هذه الحقائق، ان التقارير الاميركية في معاهد الابحاث والصحف تشير الى دور سعودي واضح في خلق ظاهرة «داعش»، مهما صدرت بيانات النفي والتنصل، والتي في كل الأحوال، ستظل من دون قيمة تذكر ما لم تظهر تطورات الايام والاسابيع المقبلة انخراطاً سعودياً جدياً في احتواء الوحش الجهادي الذي ساهمت في خلقه ورعايته.
وفي هذا الصدد، ذكرت صحيفة «ذي اتلانتيك» الاميركية بدور الامير بندر في تسليح فصائل المعارضة السورية، وهي مهمة ليست خافية على احد، وبقرار الملك عبدالله نزع الملف السوري من يديه وتسليمه الى وزير الداخلية الامير محمد بن نايف بعد زيارة اوباما الشهيرة الى الرياض في آذار الماضي بقليل، ثم من خلال إبعاده عن منصب رئاسة الاستخبارات، مشيرة الى ان الفصيلين الأكثر قوة بين الجماعات المسلحة في سوريا هما «جبهة النصرة» و«داعش»، وهي قوة حظيا بها بسبب الدعم الذي وفرته لهما السعودية وقطر.
وتنقل الصحيفة عن مسؤول قطري بارز ان «النصرة» تتلقى دعماً قطرياً ويواكب القطريون انتشارها العسكري في سوريا عن كثب، في حين أن «داعش تمثل مشروعاً سعودياً».
وتشير الصحيفة الاميركية الى أن تنظيم «داعش» ربما كان جزءاً أساسياً من استراتيجية بندر بن سلطان السرية في سوريا. وعلى الرغم من ان الحكومة السعودية نفت الاتهامات بشأن دورها هذا، بما في ذلك تلك التي وجهها اليها المالكي، الا ان هناك مؤشرات على ان المملكة غيّرت وجهة مساعداتها ـ المباشرة او غير المباشرة ـ بعيداً عن الفصائل «المتشددة» في سوريا الى جماعات اكثر «اعتدالاً»، مشيرة الى انه بعد تولي محمد بن نايف الملف السوري بدلاً من بندر بن سلطان في شباط الماضي، بدا ان السعودية بدأت تتبنى الاستراتيجية التي كانت الولايات المتحدة تسعى الى تطبيقها بتوجيه الدعم الخارجي لفصائل المعارضة السورية المسلحة، إلى الأجنحة المسماة «معتدلة».
وسبق للكاتب الاميركي ديفيد اغناسيوس ان كتب في «واشنطن بوست» ان دور الامير محمد بن نايف الجديد يعكس قلقاً متزايداً من جانب السعودية وغيرها من دول المنطقة ازاء اتساع نفوذ تنظيم «القاعدة» داخل صفوف المعارضة السورية المسلحة.
وعلى الرغم من ان الصحيفة الاميركية اشارت الى احتمال تجفيف الموارد الآتية من جانب السلطات السعودية والقطرية للتنظيمين الاكثر قوة في سوريا، الا انها المحت الى ان الدعم المالي والعسكري من اطراف غير حكومية في البلدين ربما لا يزال مستمراً، معتبرة ان ابداء الاعجاب الاميركي بشخصيات مثل بندر بن سلطان الذي حاول تحقيق اهدافه في سوريا من خلال خلق وحش، مسألة لا تستحق التقدير.
ولم يكن هذا التقرير الاميركي بعيداً عما اورده «معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى» المعروف بارتباطه بمنظمة «ايباك» اليهودية واوساط المحافظين في الولايات المتحدة. ففي تقرير أعدّته الباحثة لوري بلوتكين بوغارت، المتخصصة بالشؤون الخليجية، حاولت أن تتناول بالتفصيل الدور السعودي في دعم تنظيم «داعش»، مشيرة الى ان طرح التساؤلات حول الدعم المالي السعودي لهذه الجماعة، يستوجب تكوين فهم أفضل لثلاث مسائل هي: نطاق الدعم الرسمي ـ إن وجد ـ الذي تقدمه الحكومة السعودية لـ «داعش»؛ وسماح الحكومة بتقديم التبرعات الخاصة للتنظيم؛ والأهمية النسبية للهبات السعودية بالمقارنة مع مصادر الدخل الأخرى التي تتوفر للجماعة.
واذا اشارت الباحثة الاميركية الى انه لم تظهر في الوقت الراهن أي أدلة موثوقة على تقديم الحكومة السعودية الدعم المالي الى «داعش»، الا انها اضافت ان الرياض استمتعت بالزحف السني الأخير الذي قاده التنظيم ضد «الحكومة الشيعية» في العراق، وكذلك بالمكاسب التي حققها الجهاديون في سوريا على حساب الرئيس بشار الأسد. كما أضافت «أننا لن نفاجأ إذا علمنا بحدوث تعاون لوجستي محدود ـ وربما اتصال غير مباشر ـ هدفه تعزيز المواقع السنية في سوريا وما يتعداها، أو بتسريب الأموال والمواد من الثوار المدعومين من السعودية إلى «داعش».
الا ان التقرير تناول جانباً مهماً آخر والمتمثل بما يسمى «التبرعات الخاصة»، حيث اشار الى ان التبرعات تنقل من السعودية التي تراقب قطاعها المالي، الى الكويت التي توصف بأنها «واحدة من أكثر البيئات تسهيلاً للتمويل الإرهابي في الخليج العربي».
وتابع التقرير ان «المواطنين السعوديين لا يزالون يشكلون مصدر تمويل ملحوظ للحركات السنية العاملة في سوريا. وفي الواقع أن الأطراف المانحة في الخليج العربي ككل ـ ويُعتقد أن السعوديين أكثرها إحساناً ـ أرسلت مئات الملايين من الدولارات إلى سوريا في السنوات الأخيرة، بما في ذلك إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وجماعات أخرى. وهناك دعم سعودي لـ «داعش» في المملكة السعودية».
ان ما خلفه الامير بندر، ووجود ما يمثل بيئة حاضنة داخل المملكة تكن التقدير وتوفر الدعم لتشكيلات على غرار «داعش»، لتنتج كما فعلت سابقاً حاضنة يتخرج من خلالها السعوديون الذين شاركوا في هجمات 11 ايلول، والانتحاريون الذين استباحوا دماء العراقيين والسوريين واللبنانيين ـ والسعوديين انفسهم ـ يستوجب اكثر من مجرد بيان سعودي يتنصل من وحش بندر، وإرثه.