كتب عبد الباري عطوان في “الرأي اليوم”:
خبران سيطرا على وسائل الاعلام العربية في الاسبوعين الماضيين، واحتلا صدر نشرات الاخبار التلفزيونية وعناوين الصحف، الاول هو اعدام الطيار الاردني معاذ الكساسبة حرقا من قبل ‘الدولة الاسلامية’، والثاني سحب حكومات عربية جنسيات مواطنيها بسبب اقدامهم على مواقف سياسية معارضة لها.
انه امر محزن بكل المقاييس ان تصبح الجنيسة التي هي حق شرعي للمواطن، احد ادوات الضغط والترهيب له، والتشريد لاهله وعائلته واطفاله، والحرمان من الانتماء الى وطن آبائه واجداده لمجرد انه خالف حكومته، وانتقد بعض جوانب سياساتها، بطريقة سلمية حضارية تكفلها كل القوانين والشرائع الالهية والوضعية.
شعرت بالكآبة وانا اتابع قضية الزميل الصحافي المصري محمد فهمي الصحافي بقناة ‘الجزيرة’ الفضائية الدولية الذي قضى ما يقرب العام خلف القضبان بتهم ‘مفبركة’ حيث اضطر الى التنازل عن جنسيته المصرية لصالح جنسيته الكندية، من اجل ان يسري عليه القانون الصادر مؤخرا بإمكانية ترحيل الأجانب الذين صدرت بحقهم أحكام في مصر، وهو القانون نفسه الذي تم بموجبه ترحيل الصحافي الأسترالي بيتر غريست.
فهذه المعاملة غير الانسانية من حكومة بلده الاصلي دفعته للاقدام على هذه الخطوة لان ازدواجية الجنسية، او احتفاظه بالجنسية المصرية، ربما يبقيه في السجن لعدة اعوام، لان قانون الجنسية في الغرب لا يجبر الحكومة على الدفاع عن حاملها في بلده الاصلي.
ولا نعرف ماذا سيكون مصير المواطن المصري الزميل باهر محمد الذي لا يحمل جنسية اجنبية، الذي صدر بحقه حكم بالسجن عشرة اعوام، اي بزيادة ثلاثة اعوام بالمقارنة مع زميله الاسترالي والكندي، فلا توجد حكومة اجنبية تدافع عنه وتضغط للافراج عنه، بل حكومة مصرية تتفنن في تعذيبه واطالة امد اقامته خلف القضبان في سجون لا تصلح للحيوانات.
وقبل ثلاثة ايام سحبت الحكومة البحرينية الجنسية من 72 مواطنا من بينهم اربعة صحافيين جرى نفيهم خارج البلاد، حسب ما جاء في بيان لمنظمة العفو الدولية، وذهبت الى ما هو بعد من ذلك عندما اغلقت قناة ‘العرب’ التلفزيونية التي يملكها الامير الوليد بن طلال لانها استضافت معارضا انتقد هذه الخطوة بأدب جم، وقبلها سحبت دولة قطر الجنسية من آلاف من قبيلة بني مرة، لان بعض ابناء القبيلة شارك في محاولة الانقلاب ضد الامير السابق عام 1996، ولكن السلطات القطرية لم تقل ذلك صراحة، واتهمت هؤلاء بحمل جنسية ثانية، هي الجنسية السعودية، وتردد انها اعادت الجنسية القطرية لكل من تنازل عن جنسيته السعودية.
وكانت وكالة الانباء الاماراتية نقلت عن مصدر مسؤول في الادارة العامة لشؤون الجنسية والاقامة قوله ان الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة اصدر في الرابع من شهر كانون الاول (ديسمبر) الماضي امرا بسحب الجنسية عن خمسة اشخاص بتهمة القيام بأعمال تعد خطرا على امن الدولة وسلامتها من خلال الارتباط بمنظمات وشخصيات اقليمية ودولية مشبوهة مدرجة على قوائم الامم المتحدة المتعلقة بالارهاب (اخوان مسلمين).
وكان من المأمول ان تكون دولة الكويت التي تحظى بتجربة ديمقراطية متميزة في منطقة الخليج والوطن العربي بأسره استثناء، ولكنها سارت على النهج نفسه، وسحبت جنسيات من مواطنين، ‘مجنسين’ كانوا او غير مجنسين، واغلقت صحف ومحطات تلفزة، وكان ابرز هؤلاء الاعلامي سعد العجمي.
الدولة الخليجية الخامسة التي سحبت الجنسية من مواطنيها هي المملكة العربية السعودية وللسبب نفسه، وكان الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف هو ابرز هؤلاء لانه عبر عن معارضته للنظام في عمله الروائي العالمي ثلاثية ‘مدن الملح’، وقد تشرفت بلقائه عدة مرات في لندن، وكان اديبا مبدعا، وعربيا اصيلا، وعلى خلق عظيم تفتخر به امته وعقيدته.
ولا يمكن ان ننسى دول عربية اخرى غير خليجية توحشت في سحب الجنسيات، وعلى رأسها السلطات الاردنية والمصرية والعراقية، حتى لا يقال اننا نركز على الدول الخليجية فقط.
سحب الجنسيات وتضييق الخناق على ‘حرية الرأي’ استنادا الى تشريعات تتنافى مع حقوق الانسان هو الذي يؤدي الى جانب انتهاكات اخرى الى تصاعد جماعات التطرف المتشددة في الوطن العربي، وزعزعة استقرار البلدان، وغرقها في حروب اهلية تحت تسميات عديدة.
الجنسية حق مكتسب للمواطن، وليست منحة من الحكومة تسحبها وقتما تشاء، فاذا كان هذا المواطن ارتكب ‘جريمة’ يعاقب عليها القانون فإن من يحدد هذا العقاب هو المحاكم العادلة، المنبثقة عن قضاء نزيه ومستقل.
وربما تجادل بعض الحكومات بانها سحبت الجنسية من مواطنين من دول اخرى حصلوا عليها ولم يلتزموا بشروطها، وهذا صحيح في بعض الحالات، ليس كلها، وان كنا نعارض هذا التمييز بشدة، وهناك مواطنون سحبت منهم الجنسية عمرهم في بلادهم اطول من عمر الحكومات التي سحبت جنسياتهم، وينتمون الى قبائل عربية تمتد جذورها في عمق المنطقة لآلاف السنين.
مثل هذه الممارسات التي تشكل انتهاكا صريحا لحقوق الانسان هي التي تمهد التربة، وتوفر الحاضنة لجماعات اسلامية متشددة مثل ‘الدولة الاسلامية’ وتنظيم ‘القاعدة’ الام، وعلينا ان نتذكر ان زعيم التنظيم الاخير الشيخ اسامة بن لادن لجأ الى العنف والعمليات الانتحارية بعد ان جرى سحب جنسيته السعودية اثناء اقامته في الخرطوم.
فإذا كانت الحرب ‘الامنية’ على هذه الجماعات ‘الارهابية’ لا تكفي وحدها في الانتصار عليها اذا لم تتوازى بحرب فكرية لمنع الشباب من الانضمام اليها، فان اول ابجديات هذه الحرب الفكرية احترام المواطن وحقوقه، وابرزها حق الجنسية المقدس الذي لا يجب ان لا يمس بأي صورة من الصور.